يمثل التعليم في فنلندا تجربة مُلهمة تسعى مختلف الدول -بما في ذلك دول العالم المتقدمة- للاستفادة منها من أجل الارتقاء بمستويات المنظومات التعليمية الخاصة بهم، خاصة أن فنلندا قد جاءت في المرتبة الأولى عالمياً من حيث جودة الخدمات التعليمية المقدمة من خلال مؤسساتها المختلفة. ترى لماذا ؟ وما العوامل التي مَيّزت التعليم في فنلندا عن غيرها من دول العالم؟
مقومات نجاح التعليم في فنلندا :
ساهمت العديد من العوامل في إنجاح تجربة التعليم في فنلندا إلى أن احتلت المرتبة الأولى باعتبارها الدولة الأفضل في هذا المجال على مستوى العالم، في مقدمتها الآتي:
التعليم في فنلندا قضية قومية :
نجاح تجربة التعليم في فنلندا لم يتحقق في ليلة وضحاها، بل أنه تطلب بذلك عقوداً طويلاً بذلت خلالها جهوداً مضنية من أجل الارتقاء بمستوى المنظومة التعليمية. تخبرنا دراسة التاريخ أن دولة فنلندا تعاملت مع ملف التعليم باعتباره أهم القضايا القومية؛ حيث أنها منذ إعلان استقلالها وضعت تطوير العملية التعليمية على رأس أولوياتها وخصصت له النسبة الأكبر من الدخل القومي، إيماناً منها بأن الارتقاء بمستوى التعليم هو السبيل الوحيد للارتقاء بالأمة ككل.
يذكر هنا أن دولة فنلندا لا تزال -حتى اليوم- تولي التعليم قدراً أكبر من الاهتمام مقارنة بمختلف المجالات الأخرى، ورغم أن الجهود التي بذلت طوال العقود الماضية نجحت في جَعل التعليم في فنلندا يأتي بالمرتبة الأولى عالمياً، لكن يبدو أن الدولة لم تكتف بما تم تحقيقه ولا تجري المزيد من الدراسات إلى تحسين جودة التعليم بمختلف المراحل الدراسية أكثر وأكثر.
المزيد من الراحة والمزيد من العلم :
تعتقد بعض الجهات المسؤولة عن العملية التعليمية -خاصة في الدول العربية– أن رفع معدلات التحصيل العلمي لدى الطلاب بمختلف المراحل يرتبط بعدد ساعات اليوم الدراسي وكم المادة التعليمية التي يتم تلقينها لهم، لكن تجربة التعليم في فنلندا تسببت في نسف تلك النظرية الخاطئة.
حرص النظام التعليمي في فنلندا على تقليص حجم المناهج الدراسية المقدمة للطلاب وذلك عن طريق جعل مضمون تلك المناهج أكثر عمقاً وأقل كماً، حتى أن المعلمون في فنلندا لا يتواجدون داخل الفصول الدراسية إلا لأربعة ساعات يومياً فقط، بينما تستغل باقية فترة العمل في إعداد البرامج التعليمية وتقييم الطلاب. كذلك ساهم تقليل المدة الزمنية لليوم الدراسي في إفساح المجال أمام الطلاب لممارسة الهوايات والأنشطة المختلفة الهادفة إلى الارتقاء بقدرات الطالب العقلية والمهارية.
اختيار المعلمين يتم بعناية فائقة :
تشير الإحصائيات إلى أن الجهات المعنية بالرقابة على العملية التعليمية في فنلندا تقبل نسبة 11% فقط من إجمالي أعداد المتقدمين لشغل وظيفة معلم، وذلك لأن الإدارة الفنلندية ترى أن تلك الوظيفة لها خصوصيتها ولهذا تشترط على أن يكون المتقدم لشغلها حاصلاً على درجة الماجستير، وبخلاف المؤهل الدراسي تقوم تلك الجهات بإجراء اختبارات عديدة للمتقدمين لشغل الوظيفة كي تتأكد من أنهم مؤهلون لتلك الوظيفة بالغة الحساسية في نظرهم.
الانضمام إلى منظومة التعليم في فنلندا يعتبر من أصعب الأمور التي يمكن لأي شخص القيام بها، حيث يكون عليه إجراء العديد من المقابلات المهنية وخوض عدد كبير من اختبارات، الهدف من كل هذا التأكد من أن الشخص المُتقدم للوظيفة موهوباً في التعليم وقادر على تحمل تلك المسؤولية، والأهم أن يكون لديه إيمان حقيقة بأهمية التعليم ورسالته وأن يكون متحمساً بشدة للعب هذا الدور.
تقليص الفجوة بين الطلاب :
يرى مُطوروا منظومة التعليم في فنلندا أن الخطأ الأكبر الذي وقعت به المنظومات التعليمية -في الدول الأخرى- هو الفصل بين طلاب المرحلة الدراسية الواحدة على أساس مستواهم التعليمي، حيث يتم تخصيص فصولاً دراسياً للطلاب المتفوقين بمنأى عن الطلاب المتأخرين والأقل قدرة على التحصيل العلمي.
رأت فنلندا أن تلك النظرية تتبع منطق فاسد وأن دور المؤسسة التعليمية هو الارتقاء بمستوى الطالب المتأخر حتى يصل إلى المستوى المتوسط السائد بين أغلب الطلاب، وأولى الخطوات نحو تحقيق هذا الهدف كانت تقليص الفجوة بين الطلاب وعدم الفصل بينهم على أساس مستوى التحصيل العلمي وتقديم ذات المناهج الدراسية لكلا الفئتين مع توجيه المعلمين بالاهتمام بالطلاب المتأخرين بصورة أكبر.
المساواة مبدأ لا يتجزأ :
أحد أبرز العوامل التي مكنت التعليم في فنلندا من بلوغ المركز الأول عالمياً بمختلف التصنيفات القائمة على قياس جودة التعليم، هو أن الحكومة الفنلندية حرصت على المساواة بين مختلف المؤسسات التعليمية أيا كان موقعها الجغرافي، بمعنى أنها لا تفرق بين المدارس الواقعة في المناطق الحضرية ونظيرتها المتواجدة في المناطق الريفية، وتوزع المخصصات المالية عليهم بالتساوي وتوفر لهم جميعاً ذات الوسائط التعليمية وتُعين بهم معلمين على ذات القدر من الكفاءة.
تعي فنلندا أن أهمية التعليم تجعله حقاً أصيلاً لكل مواطن ولهذا تحرص على توفيره للجميع بذات الجودة، كما أن القوانين المُنظمة للعملية التعليمية في فنلندا تحظر وضع تصنيفات للمدارس تميزها عن بعضها البعض، أي لا توجد مدارس حكومية وأخرى خاصة وثالثة دولية.. إلخ، بل أن كافة المؤسسات التعليمية في فنلندا تقف على قدم المساواة وتُكمل بعضها البعض لأجل هدف قومي واحد.
تقوية الروابط بين الطالب والمعلم :
كان لدى القائمون على منظومة التعليم في فنلندا إيمان تام بأن نجاح التجربة التعليمية يتوقف في المقام الأول على مدى قوة الرابطة بين الطالب من ناحية والمؤسسة التعليمية -مُمثلة في المعلم- من ناحية أخرى، ولضمان تحقيق ذلك الهدف تم اتخاذ عدة قرارات، كان في مقدمتها إطالة مدة بقاء المعلم الواحد مع مجموعة الطلاب، أي أن المُعلم يتولى مسؤولية الفصل الدراسي لمدة خمس سنوات متواصلة وهذا يجعل علاقته بالطلاب أكثر عمقاً، كما تم خفض كثافة الفصول لتصل إلى 20 طالباً فقط كحد أقصى وهذا يمنح المُعلم فرصة أكبر لتوزيع اهتمامه بالتساوي على جميع الطلاب.
بخلاف هذا وذاك تولي المؤسسات التعليمية في فنلندا اهتماماً بالغاً بالأنشطة الطلابية؛ إذ تتيح لكل طالب الفرصة لممارسة الهوايات المختلفة مثل هواية القراءة أو ممارسة الأنشطة الفنية والرياضية المختلفة وغير ذلك. تساعد تلك البرامج على اكتشاف مواهب الطلاب ومن ثم العمل على استغلالها وتنميتها، وفي ذات الوقت تجعل الوقت الذي يقضيه داخلها أكثر متعة مما يعزز مشاعر الانتماء إليها بداخله.
المجانية الحقيقية:
تتشدق معظم الدول -خاصة العربية- بمصطلح مجانية التعليم لكن إن نظرنا للأمر بشكل واقعي سندرك أن تلك المجانية لا تتخطى كونها مجرد شعار أجوف، لكن الأمر يختلف كثيرا فيما يخص التعليم في فنلندا الذي يمتاز بالمجانية الحقيقية خلال مرحلة التعليم الأساسي؛ حيث أن الحكومة الفنلندية -كما ذكرنا- تتعامل مع التعليم باعتباره قضية قومية وكذلك تنظر إليه بصفته حقاً أصيلاً لكل طفل فنلندي.
مفهوم مجانية التعليم في فنلندا لا يقتصر على إعفاء الأسر من سداد المصروفات المدرسية نظير الخدمة التي يتلقاها أطفالهم فحسب، بل أن الأمر أكثر شمولاً من ذلك؛ حيث أن تقع مسؤولية توفير الأدوات المدرسية المختلفة خلال مرحلة التعليم الأساسي على عاتق المؤسسات التعليمية، هذا بخلاف توفير الكتب الدراسية بالمجان وتقديم وجبات غذائية يومية للطلاب وغير ذلك من الخدمات الإضافية المميزة.