من زمان وهناك اعتقاد أن الانجذاب للبعيد أمر مسلم به، حيث كانوا يضعون الأمثال الشعبية كالشيخ البعيد سره ذائع وأشياء من هذا القبيل كدليل على أن الناس دائما ينجذبون لأي شيء بعيد عنهم وحتى في الحب نجد أنفسنا نترك ما هو قريب منا ونذهب لما هو بعيد حتى ولو كان دون المستوى فما هو السر وراء انجذابنا للبعيد مهما كان وتركنا للقريب حتى وإن كان أفضل؟ هذا ما سنحاول البحث فيه في السطور التالية:
كل شيء بعيد هو بالضرورة مبهر
هناك اعتقاد يختص بمسألة الانجذاب للبعيد بأن كل شيء أبعد من نطاقنا الجغرافي هو بالضرورة مبهر، أي شيء بالخارج لا يحمل نفس ثقافتنا أو تفكيرنا هو طبيعي جيد، هناك منتجات مثلا محلية تقارب في مستواها المستورد بل وتفوقه، وأرخص بالطبع ولكننا لا نعيرها اهتماما ونلهث وراء المستورد، أي شيء مستورد هو بالضرورة جيد، لو ذهبت إلى محل أو متجر وسألته عن سعر منتج وقال لك رقما مبالغًا فيه وأنت تساءلت لم كل هذا الثمن الباهظ سيرد عليك بإجابة مفحمة بأن هذا المنتج مستورد وأنه ليس محليا ليكون رخيصا، بالتالي تشكل في اللاوعي أن أي شيء بعيد أو أي شخص لا يقع في دائرتنا هو بالضرورة مبهر رائع.
التفاصيل المختلفة تشعرنا بالأفضلية
الشيء الغريب وخصوصًا الشخص الغريب يكون لديه تفاصيل مختلفة عنا، ثقافة غريبة وجديدة، طعام غريب ولهجة غريبة وعادات مختلفة، تجعلنا نشعر بأفضلية هذا الشخص وعدم تساويه مع القريب منا، وهذا يفسر جزء كبير من سر الانجذاب للبعيد وحبنا له، أن التمايز في الملامح والتفاصيل الملحقة به ومفرداته الغريبة تجعلنا نشعر بأن هذا الشخص/ الشيء أفضل في حين أنه فقط عادي في مكانه، بمعنى أنه ليس أفضل ولا أسوأ، هو فقط “مختلف” فحسب.
عدم الاعتياد على شيء يخلق هالة حوله
مثلما قلنا في الفقرة السابقة من حيثيات تفسير حالة الانجذاب للبعيد بشكل مطلق أن التفاصيل المختلفة للشيء أو للشخص تشعرنا بأفضليته وتميزه وذلك بسبب أننا لم نعتد عليه، حتى الأماكن البعيدة تشعرنا كذلك بأهميتها وتميزها عن الأماكن التي ترعرعنا فيها حتى ولو كانت الجنة نفسها، أذكر أنني مرة قابلت شابا فرنسيا يدعى فيليب في إحدى مقاهي القاهرة الشعبية، وبعد أن تعارفنا وجلس مع أصدقائي وشعر بالألفة بينهم حكى لنا عن نفسه وعن باريس التي ولد ونشأ فيها وقال أنه يكره باريس ولا يحبها ولذلك هو يسافر بين البلدان ولا يحب العودة إلى باريس وقال أن هذا هو الصباح الأول له في القاهرة ولكنه منبهر بها جدا ويتمنى لو يعيش هنا ما تبقى له من حياته، الحقيقة أثار هذا الكلام استغراب أصدقائي جدا لأن الناس من كل مكان في العالم يتمنون الذهاب إلى باريس فضلا عن عدم رغبة القاطنين في القاهرة البقاء فيها، فكيف انعكس الأمر بهذا الشكل؟ كما قلنا أن الانجذاب للبعيد سره هو عدم الاعتياد عليه وربما لو كنا ولدنا في باريس أيضًا لكنا أحببنا القاهرة ومراكش وعمان ودمشق وبغداد وتونس بالفعل وتمنينا لو عشنا فيها طوال عمرنا.
مقاومة للخيارات المحدودة في نطاقنا الضيق
الإنسان يولد في مكان واحد ويرى نفس الناس كل يوم ويأكل نفس نوعية الطعام ويتحدث نفس اللهجة وبالتالي يكون نطاقه ضيق وعالمه محدود الخيارات، بالتالي يسعى الإنسان دائما إلى اكتشاف كل هذه الثقافات من حوله وإلى التمعن في تفاصيل الكون ورؤية الأشياء المختلفة والثقافات المختلفة وكل ما يأتي مما هو بعيد، لذلك الانجذاب للبعيد هنا رغبة أصيلة لدى الإنسان يمكن أن تنشأ حتى في اللاوعي لمقاومة الخيارات المحدودة في نطاقه الضيق وإضافة خيارات جديدة وتوسيع أفقه بحيازة البعيد والحصول عليه، بالتالي نجد أن الأشخاص الذين تزوجوا من أماكن بعيدة مثلا أدخلوا ثقافات أخرى إلى أماكنهم وأبناءهم ما بين هذا وذاك نوعا ما.
غربة الإنسان في واقعه والابتعاد عن مفرداته
ربما كل شيء مفروض علينا نحاول دائما أن نلفظه بعيدا عنا، وعادة ما يجد الكثير من الأشخاص أنفسهم يشعرون بالاغتراب مع واقعهم وعدم التآلف معه بالتالي يحاولون الخروج عن هذا الواقع وهذا المجتمع ومفرداته والبحث عن شيء يتآلف معه وحتى إن لم يتآلف معه فعلى الأقل سيكون مؤتلفا معه في اغترابه أيضًا، لذلك ربما الانجذاب للبعيد يكون سببه غربة الإنسان في مجتمعه وشعوره بعدم الانتماء لهذا الواقع المفروض عليه ومفرداته المملة من وجهة نظره والبحث عن بديل جذاب ومألوف، أو حتى غير جذاب أو غير مألوف أي أن الانجذاب للبعيد ليس لأن البعيد جيد في المطلق ولكن لأنه مغاير دائما.
الانجذاب للبعيد نتيجة ضمان القريب وتوافره
ربما الأمور تخضع أكثر لقوانين العرض والطلب، ضمان القريب وتوافره بغزارة وتواجد العديد منه مع ندرة البعيد وعدم توافره بكثرة يجعلنا نشعر بهذه الحالة من الانجذاب للبعيد مما يضفي نوعا ما بعض الألق على البعيد وانطفاء القريب مما ينتج عنه حالة من حب كل ما هو بعيد وشعور بتميزه وأفضليته ولولا أنه أفضل ومتميز لما كان الإنتاج منه أقل بكثير ولولا أن القريب رديء وسيئ وغير مناسب لما توافر منه كثير وبتكلفة أقل، كما أن عدم القدرة على الوصول للبعيد يعني أن هناك فرصة ضمان القريب وتوافره، فالمحاولة مع البعيد أولى. هذه هي إحدى تفسيرات حالة الانجذاب للبعيد عموما.
المتعة أثناء رحلة الوصول للبعيد
ما يمكن أن تصل إليه بسهولة يصيبك بالملل منه مبكرا كما أنك لا تشعر أنك إن وجدت شيئًا سهلا يوضع في يدك ستعرف قيمته، أما ما تبذل الجهد في سبيله وتضحي بكل ما هو مرتخص وغال تشعر بالفعل بقيمته بسبب مشقة الوصول إليه، كما أن الرحلة نفسها ممتعة لأنك تجد نفسك تقترب من هدفك يوما بعد يوم أي ازدياد معدل السعادة، وهذا ما يجعل القريب والحصول عليه سهل وممل وبارد وبلا طعم.
الشعور بالتميز لعد الرضا بالخيارات المتاحة
بالطبع هناك شعور بالتميز لمن حاولوا الوصول للبعيد وحصلوا عليه عن الأشخاص الذين ارتضوا بالقريب وأخذوه، هذا يعني أنني لم أوافق على هذه الخيارات القليلة المتاحة وجاهدت كي أزيد من خياراتي واخترت الأفضل بالطبع، هذا شعور طبيعي سيحسه كل من استطاع حيازة البعيد والحصول عليه، وشعور بالدونية أيضًا كل من ارتضى بالقريب.
الانجذاب للبعيد من أجل الرغبة في عيش حياة مختلفة
يرغب جميع الناس في عيش حياة مختلفة ولكن هناك من لديه العزيمة لذلك ويحاول بالفعل، وهم ندرة. ومن يرتضي بالخيارات المتاحة أمامه وهم الأكثرية بالتالي النادرون يحاولون الابتعاد عن خيارات الأكثرية وبالتالي يرتبط القريب بهؤلاء الأكثرية أما القلة فهم ينجذبون لما هو بعيد.
خاتمة
حالة الانجذاب للبعيد هي حالة مفهومة ولها وجاهتها على أي حال وهي موجودة في كل المجتمعات لذلك نرجو أن نكون قد فصلناها بدقة وتحدثنا عنها بما يشبع ظمأ من يحاول أن يجد تفسيرا لها.