في العشرين من نيسان عام 1920 عقدت اتفاقية سان ريمو الدولية والتي بموجبها تحدد مصير الكثير من الدول العربية، ويرجع السبب في عقد هذه الاتفاقية هو انتهاء الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى والشروع في تقسيم تركة الرجل المريض بين دول الحلفاء وخاصة بريطانيا وفرنسا، وما أسرع عقد اتفاقية سان ريمو هو محاول الدول الشامية بالتعاون مع العراق في توحدهم جميعًا في كيان واحد، حيث ستنضم فلسطين والأردن ولبنان إلى سوريا وتصبح مملكة واحدة تسمى المملكة السورية العربية، ثم بعدها ستنضم العراق معهم وهذا أول طريق لتوحد الدول العربية بأسرها، وهو ما نظرت إليه الدول الأوربية بنظرة الخطر والخوف من تبعيات هذه الوحدة، فالمسلمون عندما يتحدوا تنصهر الجبال أمام قوتهم وبأسهم، ولذا حاولت كلًا من بريطانيا وفرنسا وإيطاليا مع بعض الدول الضعيفة نسبيًا مثل بلجيكا واليونان إيقاف هذا الاتحاد عن طريق عقد مجلس في مدينة سان ريمو الإيطالية ولذلك سميت الاتفاقية باسم اتفاقية سان ريمو، فهل تعرف قرارات هذه الاتفاقية العظيمة!
استقلال الدول العربية عن الدولة العثمانية
أولى القرارات التي اتخذتها دول الحلفاء في اتفاقية سان ريمو هو استقلال الدول العربية الواقعة في أسيا والشمال الإفريقي عن الدولة العثمانية، فكما نعرف بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى أصبحت الدولة العثمانية رجل مريض لا يقدر على إدارة أي دولة أخرى، بل لم يقدر على إدارة دولته حيث أن مصطفى كمال أتاتورك قام بثورة في الدولة العثمانية حتى تأسست الجمهورية التركية أعقاب هذه الثورة، ولذلك انفصلت دولة الحجاز ثم بلاد الشام ثم الشمال الأفريقي كله عن الدولة العثمانية، وقامت إنجلترا وفرنسا بفرض ووصايتها على بعض الدول العربية بحجة أن هذه الدول لن تقدر على تسيير شئون البلاد.
مع عدم امتلاكها أي نضوج سياسي يسمح لها بذلك الاستقلال التام فلذا أخذت فرنسا لبنان وسوريا، وأخذت بريطانيا العراق وفلسطين مع انضمام بلدة الموصل إلى كردستان، وهذا ما غير مسار أغلب الدول العربية وقضى على الخلافة الإسلامية التي بدأت منذ الخليفة الأول أبو بكر الصديق وانتهت في العقد الثاني من القرن العشرين.
اتفاقية سان ريمو وتأثير الانتداب البريطاني على فلسطين
أشد تأثير خلفته اتفاقية سان ريمو هو الانتداب البريطاني على دولة فلسطين العتيقة، حيث أن هذا الانتداب كان له كبير الأثر في تغيير مجرى تلك الدولة وجعلها تتعرض للاحتلال اليهودي الغاشم الذي ما زال مستمر إلى يومنا هذا، وذلك لأن بريطانيا كانت حليفة اليهود ولهم الكثير من الجرائم سويًا فقد كان اليهود يغدقون الأموال على السلطات البريطانية مقابل منحهم وطنًا في فلسطين العربية، وهذا ما حدث بالفعل فقد سمحت بريطانيا لليهود بالقيام بهجرات كبيرة متتالية بعد الدعاوي الكثير التي شنتها الوكالات الصهيونية لجمع اليهود في المحشر والمنشر، وقد استجاب اليهود في كل أنحاء العالم لهذه الدعوات وتوافدوا على فلسطين أفواجًا لاقتناعهم بأنها من حقهم وهي تلك البقعة المباركة التي وهبها الله لهم، وفي الحقيقة فلسطين قد وهبها الله لليهود ولكن أخذت منهم نظرًا لكثرة المعاصي ومخالفتهم لعبادة الله وأتباع أوامر النبي موسى عليه السلام.
فهاجر اليهود في عليا الأولى إلى فلسطين بأعداد تجاوزن الأربعين ألف يهودي، ثم عليا الثانية بإثنين وثمانين ألف يهودي، ثم عليا الكبرى والتي تخطت فيها الأعداد الربع مليون يهودي، عليا الغير شرعية والتي قاربت الستين ألف، كل هذا بتسهيلات من بريطانيا العظمى كمكافأة لليهود على وقفاتهم الكبيرة مع البريطانيين، حتى أنشأ اليهود وطنهم الجديد تحت مسمى إسرائيل ودخلت اللغة العبرية كلغة ثالثة بجانب العربية والإنجليزية، وهذا أسوء ما خلفته اتفاقية سان ريمو.
حدوث موجة من الصراعات السورية
بعد إصدار اتفاقية سان ريمو ومعرفة كافة بنودها خرج الشعب السوري في موجة غاضبة جراء هذه التقسيمات الغير مرغوب فيها من قبل العرب بأكملهم، حيث أن هذه الاتفاقية قامت بمنع فلسطين ولبنان والأردن من الانضمام في تحالف واحد مع الدولة السورية لتصبح بلاد الشام كله واحدة تحت مسمى المملكة السورية العربية، وهذا ما تحسست منه الدول الأوروبية الخطر ورأت أن مثل هذا الاتحاد سوف يضعف من قوتها وتحدث الكثير من التمردات جراء أي تعدي أوروبي على بلاد الشام أو البلاد المجاورة، فلذا خرج السوريون بثورتين من شمال وجنوب البلاد الأولى في حوران الجنوبية تحت قيادة سلطان الأطرش، والثانية في الشمال تحديدًا منطقة العلوين في بداية الجبال السورية تحت قيادة صالح العلي، وهذه الثورات كانت تهدف لإفساد هذه التقسيمات التي كانت ستفصل الشمال عن الجنوب بجانب فصل الدولة الشامية الأخرى بعضها عن بعض.
ودخلت هذه الثورات الكثير من الاشتباكات مع القوات الفرنسية على طول الطريق الشامي حتى تراجع الجنود الفرنسيين تراجع ملحوظ جعلهم يقبلون بعقد معاهدة لوقف هذه التمردات، وكانت نتيجتها توحيد الأراضي السورية كلها مع عدم ضم الدول الشامية المجاورة، وقد رضي الشعب السوري بهذه المعاهدة لأنه مضطر لذلك وهو أخف الضررين.
تأسيس دولة لبنان الكبير
بعد استتباب الأوضاع للفرنسيين في سوريا ولبنان بعد انتهاء أعمال اتفاقية سان ريمو، قامت المركزية الفرنسية بفصل لبنان عن سوريا انفصال تام وحتى هذه الأيام فهذه الانفصال كما هو لم يتغير، وضمت أراضي لبنان الكبير المدن الأتية طرابلس، وعكار، وبيروت العاصمة، وبعلبك، والبقاع، وجبل عامل، وجبل لبنان، وصيدا، وحاصبيا، وهذه المدن ما زالت إلى الآن تحت حوزة لبنان وهذا حق مشروع لها ولكن الاتحاد مع سوريا كان هو الأفضل لها ولشعبها، وقد نشبت معركة طاحنة على الأراضي السورية اللبنانية بين الجيش العربي السوري والجيش الفرنسي وقد حملت هذه المعركة اسم ميسلون، وكان قائد هذه الحرب من الناحية الفرنسية هو هنري غورو ومن الناحية السورية يوسف العظمة، وكانت أعداد الجيش السوري هي ثلاثة آلاف جندي وعدد الجيش الفرنسي تسعة آلاف جندي، وقد منيت فيها القوات السورية هزيمة ساحقة في بضعة ساعات بسبب ضعف الأسلحة التي كانت لديهم بالمقارنة مع الجيش الفرنسي المزود بأحدث الأسلحة وتدعمه الطائرات والدبابات.
وحاول الشعب اللبناني شن حرب عصابات على القوات الفرنسية المرابطة على الساحل السوري ولكنها لم تثمر بأي شيء نظرًا لضعف الأسلحة التي كان يمتلكها المجاهدين، ولا ننسى دور ثورة جولان الأولى التي كانت أشد ما لقاه الجيش الفرنسي في الأرضي السورية، ولكن في النهاية تعتبر اتفاقية سان ريمو هي من حددت مصير دولة سوريا ودولة لبنان إلى يومنا هذا.
استقلال أرمينيا وكردستان عن الدولة العثمانية
من البنود التي نصت عليها اتفاقية سان ريمو هو استقلال دولة أرمينيا عن أملاك الدولة العثمانية، حيث أن الحكومة العثمانية نظرت للأرمن نظرة خطوة على كيان الدولة بعد انضمام فرقة أرمينية إلى الجيش الروسي، ولذا قامت الأرمن من أراضيهم بعد الكثير من المعارك الطاحنة التي بدأها الشعب الأرمني على العثمانيين، وقد راح ضحية هذه المعارك أكثر من مليون قتيل من كلا الطرفين ثمانين بالمائة منهم من الشعب الأرمني، وأثناء عقد اتفاقية سان ريمو قامت بريطانيا بطرح بند يقضي باستعادة الأرمن لأراضيهم مع منحهم الاستقلال التام، وكما نعرف أن الدولة العثمانية كانت في حالة ضعف شديد جدًا ولذا تم تقسيم تركتها كرجل مريض أوشك على الموت.
أما عن كردستان فهي تعتبر إقليم مقسم إلى عدة نواحي حيث تدخل حدوده في العراق وإيران وسوريا وتركيا، وقد جاء ضمن بنود هذه الاتفاقية استقلال كردستان عن هذه الدول وتتمتع بحكم فيدرالي تام، وبالفعل هذه ما حدث وما زال كردستان العراق كما هو متمتع بحكم فيدرالي ويتقاسم المناصب مع العراق بأكمله، والسبب في تلك الاستقلاليات هي اتفاقية سان ريمو.
أخذ اليونان لأجزاء من الدولة العثمانية بسبب اتفاقية سان ريمو
نصت اتفاقية سان ريمو على منح دولة اليونان منطقة شرق تراقيا، وجز بحر أيجه، وغرب الأناضول، قبل هذه الاتفاقية كانت تلك المناطق تابعة للكيان العثماني وترفرف أعلامها على أبراجها الساحلية، ولكن قامت بريطانيا بمعاونة من فرنسا بمنح هذه المناطق لليونانيين وكالعادة لن تقدر الدولة العثمانية على صد هذه التحركات، فمع مشارف القرن التاسع عشر أصبحت الدولة العثمانية ضعيفة للغاية وتستطيع أي دولة كبرى سحقها في عدة أيام، ولذا رضيت بهذه الاستقطاعات التي تمت في أراضيها ولكن إلى الآن لا تزال المناوشات جارية جوًا وبحرًا بين القوات التركية والقوات اليونانية في المناطق الحدودية بينهما.
أخذ فرنسا لربع النفط العراقي
قامت فرنسا فور تسلمها السلطة في الأراضي العراقية بعقد اتفاقية مع الحكومة تلزم العراقيين بإعطاء فرنسا ربع النفط الموجود بالأراضي العراقية، وهذا نظير إدارة المحافظات العراقية من قبل الفرنسيين وحفظ السلام في البلاد، وكما نعرف فإن العراق كانت لديها أكبر احتياطي نفطي في العالم خلال منتصف القرن العشرين، وهذا إغراء كبير للسلطات الفرنسية ولذا طمعت في أخذ حصة من تلك الثروة الكبيرة، فأخذت نسبة من حقل مجنون الكبير والذي يعد أحد أكبر آبار البترول في العالم، ثم نسبة من حقل حلفاية الذي يقع في جنوب العراق، ثم نسبة من آبار غرب القرنة، وآبار الزبير، وبعضًا من آبار الغراف، وهكذا تسبب اتفاقية سان ريمو في نهب الكثير من النفط العراقي الأجود عالميًا.
عدم مقدرة ألمانيا على زيادة أعداد جيشها
نصت اتفاقية سان ريمو على منع ألمانيا الخاسرة في الحرب العالمية الأولى من زيادة أعداد جيشها واقتصاره على مائة ألف جندي فقط، وذلك لأن ألمانيا كانت السبب الرئيسي في الحرب العالمية الأولى حيث أنها من بدأت شن الحرب على الأراضي الروسية ثم البلجيكية ثم الفرنسية في آن واحد، فتكالبت عليها هذه الدول بالتعاون مع بريطانيا حتى كبدوها خسائر فادحة تجاوزت العشرة ملايين قتيل ألماني، ولذلك قامت فرنسا بالتعاون مع بريطانيا بإلزام ألمانيا بعدم زيادة جيشها عن المائة ألف جندي والتسلح بأسلحة بسيطة وذلك لتفادي أي حادث إجرامي مفاجئ تقوم به القوات الألمانية الكبيرة، ووافقت ألمانيا على هذه القرارات في بادئ الأمر ثم بعد أن وصل هتلر زعيم النازية إلى الحكم بدء بزيادة أعداد الجيش سرًا.
مع تزويده بأسلحة جديدة وثقيلة بعيدًا عن أعين الأوروبيون الذين كانت أنظارهم تلاحق الشعب الألماني دائمًا، حتى تمكن هتلر من زيادة أعداد جنوده في مدة وجيزة لتقارب الثمانية مليون جندي، وهكذا نرى ألمانيا خير مثال على القوة والسرعة في الرد على النقيض من الدول العربية التي لم تفعل أي شيء مثمر مع بريطانيا وفرنسا.
الكاتب: أحمد علي