مما لا شك فيه أن ذكر روايات الجريمة والإثارة والغموض يعني بالضرورة ذكر الكاتبة البريطانية الشهيرة أجاثا كريستي ، فإذا كان كل فن له أب أو أم فإن أجاثا هي أم الأدب المنتمي لهذه النوعية، الأم الشرعية الأولى والوحيدة، وكل رواياتها التي كتبتها في هذا المجال الصعب تشهد على هذه الحقيقة، حيث أنها ظلت لفترة طويلة تُزود العالم بكتابتها من هذه النوعية دون أن يتوقف العطاء أو ينضب نهر إبداعها، وبات من الصعب جدًا أن تقرأ رواية جيدة في هذه النوعية من الأدب دون أن يكون اسم أجاثا موجودٌ عليها، لكن أولئك الذين لم يغصوا بعد في عالم أجاثا لا يعرفون أسباب شهرتها الكبيرة واعتبارها أفضل من كتب في فن الجريمة والغموض، ولذلك، دعونا في السطور القادمة نتعرف سويًا على إجابة هذا السؤال ونُعطي العظمية أجاثا حقها الذي تستحق الحصول عليه دائمًا.
المحافظة على القارئ حتى اللحظة الأخيرة
هناك كتاب من المعروف عنهم أنهم لا يستطيعون المحافظة على القارئ، وهؤلاء لا يفقدون الكاتب بسبب أي شيء سوى عدم قدرتهم على مجاراة ما تفعله أجاثا كريستي، فهي التي بإمكانها أن تنصب الشراك للقارئ في السطر الأول وتُقحمه في الحكاية حتى يبدو وكأنه قد وقع أسيرًا لها، بعد ذلك تبدأ عملية السيطرة الكاملة من خلال بقية الأسطر، فمن الصعب جدًا ألا يُكمل أي قارئ رواية من روايات كريستي في أكثر من جلسة، بل كل ما يلزم لفعل هذا الأمر جلسة واحدة فقط، حتى لو كانت صفحات الرواية تزيد عن الخمسمئة صفحة، في النهاية ستجد كريستي طريقها إلى القارئ وستعرف جيدًا كيف تُحكم قبضتها عليه، وإذا كنتم لا تصدقون هذا الأمر يُمكنكم اختيار أي رواية بشكل عشوائي وتجربة هذا الشعور بأنفسكم، فلم تكتب أجاثا رواية واحدة خانها فيها التوفيق والتشويق، وكأنها هي ربة التشويق وصانعته فيما يتعلق بالروايات.
بعض الناس يعتقدون أن فكرة الاحتفاظ بالقارئ قائمة في الأساس على مجال الإثارة والتشويق والغموض التي تبرع أجاثا بالكتابة فيه، لكن الكثير من الكتب يكتبون في هذا المجال ومع ذلك لا يتمكنون من السيطرة على القارئ أو المحافظة عليه، وهذا يعني أن السر في أجاثا نفسها وليس في نوع الروايات الذي تكتبه تلك المرأة المُدهشة، الأمر ببساطة أشبه بسيناريو فيلم عظيم تم تجسيده من قِبل ممثل بارع وإخراجه من قِبل مخرج مُتميز، فهذا سوف يُخرج لنا في النهاية فيلم جيد جدًا، لكن إذا حدث العكس وتولى السيناريو العظيم أشخاص محدودي الإمكانيات فلن يخرج الفيلم بصورة جيدة.
تحويل أغلب أعمال أجاثا كريستي إلى أفلام ومسلسلات
من المعروف طبعًا أن الشاشة الصغيرة، وكذلك الكبيرة، هما المعيار الأهم لنجاح الأعمال الأدبية، فنحن القراء يُمكننا أن نختلف على هذا العمل وهل هو يستحق كل هذه الشهرة أم لا، لكن عندما نرى ذلك العمل قد تحول إلى السينما أو التلفاز وأصبح له أبطال من لحم ودم فإنه غالبًا ما نُقر بجودة هذا العمل، وهذا بالضبط ما حدث فيما يتعلق بروايات أجاثا كريستي، فمن الأسباب والأدلة على كونها الأفضل والأشهر فيما تكتبه أن ما يزيد عن خمسين بالمئة من أعمالها تم تحويله إلى أفلام ومسلسلات ناجحة، حتى النسبة المتبقية من هذه الأعمال القيمة يُمكن القول أنها قد دخلت في طور الإعداد من أجل تحويلها إلى أعمال نابضة قريبًا، هذه هي قوة أجاثا التي لا غبار عليها.
أعمال أجاثا كريستي عندما تحول إلى أفلام ومسلسلات تحظى بشهرة أكثر، وذلك لأن الجمهور على الشاشة، وبعيدًا عن الروايات، يُفضل تلك المشاهد التي تحتوي على جرعات مكثفة من الإثارة والغموض، وهذا ما يجيده بالضبط على مائدة أجاثا، وهذا أصلًا ما يُفسر الإقبال الكبير للمُنتجين على هذه النوعية من الكتابات، فالكثير من الكتاب عاشوا وماتوا ولم تُحول حتى عشرة بالمئة من أعمالهم إلى شاشات السينما والتلفاز، لكن مع أجاثا الوضع مختلف تمامًا.
كتابة عدد هائل من الروايات بنفس المستوى
أحيانا يكون الكاتب الجيد له رواية أو أربعة أو حتى عشر روايات، اثنين منها أو ربما واحدة هي فقط ما تنجح وتحقق تلك الشعبية الجارفة، بينما بقية الروايات تعيش على هذا النجاح، لكن الوضع مع أجاثا كريستي مختلف تمامًا، حيث أن تلك المرأة قد تمكنت خلال حياتها الأدبية من كتابة ما يزيد عن الخمسين عمل، جميعهم منتمين إلى نوعية الجريمة والإثارة والغموض، والغريب أن كل الأعمال التي كتبتها أجاثا قد حققت نفس القدر من النجاح حتى أنه لا يُمكنك اختيار الأفضل بينها، وهذا إن دل فيدل على أن تلك الكاتبة كانت تمتلك قدرة أقل ما يُقال عنها أنها مُدهشة، والأدهى من ذلك أن كل هذه الأعمال قد تم جدولتها كما ذكرنا للتحويل السينمائي والتلفزيوني بعد وفاة أجاثا، ومنها ما تم تنفيذه بالفعل ومنها ما ينتظر، لكن المهم في النهاية أن المُنتج الذي يخرج من تحت أيدي أجاثا كريستي لا يُمل منه أبدًا.
هناك من يقول إن كل الروايات التي كُتبت وحملت اسم أجاثا كريستي كانت تنتمي لنوعية الجريمة، بينما قامت هذه المرأة أيضًا بكتابة مجموعة من الروايات التي تنتمي إلى الشِق الرومانسي تحت اسم مُستعار، ولا يعرف أحد حتى الآن السبب الحقيقي الذي دفعها للقيام بهذا الأمر، لكن يُعتقد أنها أرادت أن تترك لاسم أجاثا كريستي إرث خالص من الجريمة والغموض كي تعرفها الأجيال القادمة من خلاله، وهذا ما تم تحقيقه بالفعل.
خلقت أجاثا كريستي شخصيات في غاية الإبداع والتميز
أهم أدوات الكاتب، مهما كان المجال الذي يكتب به، الشخصية، فإذا تمكن الكاتب من خلال شخصية قوية فإن قوة هذه الشخصية سوف تقودها فيما بعد إلى التعبير عن نفسها بأفضل طريقة ممكنة، هذه الشخصية كذلك سوف تكون الباب الذي يتم الوصول من خلاله إلى القارئ، وهذا ما نجحت به أجاثا كريستي بالفعل من خلال خلق شخصيات نابضة استطاعت أن تتعدى نطاق الرواية التي تعيش بها، وإذا ذكرنا أمثلة على هذه الشخصيات فسوف يطول الأمر كثيرًا، لكن يكفي أن نستشهد بشخصية المُحقق في فيلم جريمة قطار الشرق السريع، فهذه الشخصية كانت مُبهرة على الورق ومُبهرة كذلك بعد تقديمها في قالب سينمائي، وهكذا الحال مع بقية شخصيات أجاثا كريستي.
ختامًا، الحديث عن أجاثا كريستي بكل هذه الحفاوة واعتبارها الكاتبة الأفضل في مجال الإثارة والتشويق والجريمة لا يعني أبدًا أنها الوحيدة التي كتبت في هذا المجال، فبالطبع ثمة كتاب آخرين دخلوا هذا المُعترك وكتبوا أعمال جيدة لا تزال خالدة وتم تجسيدها أيضًا في أعمال سينمائية، لكن المقارنة الآن بين الجيد والأفضل على الإطلاق، وبالتأكيد من يستحق لقب الأفضل على الإطلاق بهذا المجال أجاثا كريستي.