لم تكن محاكم التفتيش كعادة المؤسسات القضائية المتواجدة في جميع أنحاء العالم، بل أنها كانت مؤسسة دموية غاشمة تعمل في الأساس على محاربة السحر والبدع، ولكن مع مرور الوقت وفي أثناء القرن الخامس عشر والسادس عشر طورت من أهدافها حتى كانت تضطهد المسلمين واليهود المتواجدين في الأندلس، وهذا بعدما امتلكا زمام الحكم في البلاد وخرجت الجيوش الإسلامية منهزمة من أخر معاقلهم غرناطة، ولم تكتفي محاكم التفتيش بمعاقبة وقتل المسلمين واليهود فقط، بل كانت تحارب المرتدين عن الدين المسيحي أيضًا، حيث تقوم باعتقالهم وتعذيبهم بشتى الوسائل لكي يعودوا إلى الديانة المسيحية والمذهب الذي يفضلونه أيضًا، وقد نشطت محام التفتيش في عدة دول أشهرها الدولة الإسبانية، والدولة الرومانية، والدولة البرتغالية، والدولة الفرنسية، ونحن لا نعلم بالتحديد ضحايا هذه المؤسسة فقد اختلفت الإحصائيات، ولكن ما نعلمه حقًا أنها الأكثر وحشية في العالم.
انتزاع الرحمة من قلوبهم وتعذيبهم الغير آدمي
حينما قررت محاكم التفتيش تعذيب من لا يسير وفق أهوائهم لم تستخدم أدوات تعذيبيه معتادة، بل تفننت في اختراع آلات التعذيب وابتدعت فيها بشكل رهيب لا يستطيع أي شخص الصمود أمامه مهما كانت قوته، وهذا يدل على انتزاع الرحمة من قلوبهم إذا كانت لديهم قلوب من الأساس، فإذا كانت لديهم قلوب وتخيلوا أنهم مكان من يعذبونه بهذه الوحشية بالتأكيد لامتنعوا عن هذه الأفعال الإجرامية، ولكن هذا لم يحدث بل كانت تزداد آلات التعذيب لديهم قوة وإبداعًا مع مرور الوقت، لكيلا يستطيع أي إنسان الصمود أمامهم بل من شدة التعذيب سيستجيب لأوامرهم وما يريدونه منه رغم أنفه، وهذا الجرم غير أدمي إطلاقًا ولا تأمر ولا ترضي به أي ديانة سماوية وغير سماوية، بل ومن بشاعة ما كانوا يفعلوه أنهم كان يقيمون حفلات كبيرة يحضرها الناس بتذاكر، وهذه الحفلات مخصصة لتعذيب مجموعة من المذنبين في نظرهم أمام الناس، ويضحك المشاهدين والمسئولين بينما يعذب هؤلاء الأبرياء بكل قسوة، ولذلك صنفت محاكم التفتيش أنها المؤسسة الأكثر وحشية في العالم.
استخدام محاكم التفتيش لوسائل تعذيب بشعة
استخدمت محاكم التفتيش الكثير من أدوات التعذيب والعديد من الطرق المختلفة، والتي صممت بغرض أن تبقى الروح متواجدة في الجسد لأطول فترة ممكنة، وذلك لكي يشعر المذنب بعذاب رهيب لفترة طويلة حتى تذهب روحه بعد كل هذه المعاناة، وكان من أشهر هذه الأدوات هي ملئ البطن بالماء حيث كانوا يقومون بربط المسكين وفتح فمه وصب الماء من خلال قمع يثبت في الفم، ويقف طبيب بجانب هذا الرجل يطمئن على حياته لكي يعلم كم سيستغرق التعذيب من الوقت، وخلال هذا الصب كانوا يقومون بثقبه بالدبابيس في شرايينه وأعصابه، وهناك أيضًا طريقة حرق الأقدام عن طريق ربط المعذب بكرسي عالي والنار موقدة بأسفل قدميه، وكان يوجد أيضًا تكسير العظام وتفتيتها باسطة المطارق، ودفن المذنب وهو حي بالتراب، وكان يوجد الجحش الخشبي حيث يربط المسكين بهذه الآلة وتضيق على صدره شيئًا فشيء حتى يختنق ويموت بالبطيء.
وكان يوجد أيضًا آلات لخلع اللسان، وتكسير الأسنان، وكلاليب حادة مخصصة للنساء، والمشنقة التي لا تشنق المعذب نهائيًا بل يبقي على قيد الحياة ويشعر بضيق المشنقة على رقبته، هذا بجانب السلاسل الضخمة التي تثبت في أربعة نواحي ويتم ربط أيدي وأرجل المعذب بها ويقوم أولئك الوحوش بشدها لكي تتمزق أعضائه في نواحي مختلفة، وهناك آلة كسر العظام وطي الإنسان بداخلها، والتابوت الحديدي المحكم الغلق الذي به ستة حربات يقومون بإدخالها في قلب وعين وبطن المسكين، كل هذا وأكثر كان متواجد في محاكم التفتيش القاسية.
سلب الحرية الدينية والمذهبية من الناس
كانت محاكم التفتيش سالبة للحريات سواء كانت دينية أو مذهبية، فأما عن الجانب الديني فكانت تضطهد المسلمين واليهود بشكل كبير وبأساليب لا تطاق، وهذا ما ظهر جليًا في محاكم التفتيش الإسبانية التي تأسست خصيصًا لمكافحة المسلمين واليهود المتواجدين في شبه جزيرة أيبريا، حيث قام فرديناند حاكم أراجونه بطلب الإذن من البابا سكستوس الرابع بإدخال محاكم التفتيش في إسبانيا، وبعدما وافق البابا على هذا الطلب شرع فرديناند بممارسة الاضطهاد الديني ومكافحة أي دين غير المسيحية في إسبانيا، وقد قيل أنه من ضمن أعضاء هذه المحكمة تواجد الكاردينال كمنيس وقد كان معروف بالعصبية الشديدة للكاثوليكية فأرغم قرابة الأربعين ألف مسلم على التنصر، وقد كانت أعمال هذه المؤسسة تقام في سرية تامه ولكن مع الوقت أصحت لا تهاب أي شيء وخرجت للنور ولم يعارضها أي أحد.
وأما عن الجانب المذهبي فكما هو معروف كانت توجد ثلاثة مذاهب الكاثوليكية والأرثوذكسية والبروتستانتية، وكانت غالبية محاكم التفتيش تدين بالمذهب الكاثوليكي فلذلك عملت على اضطهاد المذاهب الأخرى وتعذيبهم تعذيب شديد، وذلك لإرغامهم على تغيير آرائهم والسير وفق أهواء رجال المحكمة، ونجد أنها قامت بتعذيب المفكرين والعلماء أمثال دميان دي كيز البرتغالي، ودولت المشتغل بالفلك والطباعة، ودوردانو بروتو العالم الفلكي الشهير، وفيانني وهو مفكر وفيلسوف، وجاليليو العالم الكبير، وحبوفاني بيكود الأمير الإيطالي، كل هذا وأكثر قامت محاكم التفتيش بتعذيبهم لكي يسيروا على الطريق الذي تريده المحكمة، وإن أبوا قتلوا بدون أي شفقة أو رحمة، فهل يوجد وحشية أكبر من ذلك!
إقامة حفلات تعذيبيه كبيرة
من ضمن الأساليب المتطورة لدى محاكم التفتيش الغير أدمية هي إقامة حفلات تعذيبيه كبيرة يحضرها عموم الناس لكي يفرحوا ويسعدوا بهذه المناظر الموحشة، وكان من أشهر هذه الحفلات المسماة بحفلة الحريق أو أفراح الموت، حفلة أجريت للحكم على ثلاثين شخص أمام الناس، فبعدما اجتمع المشاهدون الذين وصل عددهم إلى مائتي ألف شخص من قشتالة، وكان على رأسهم الملك فيليب الثاني، قامت المحكمة بالحكم على أربعة عشر منهم بالإحراق أحياء، والستة عشر الباقين بالسجن المؤبد، وقد جلس الملك على كرسي مرتفع يطل مباشرة على منصة الإحراق، وكان يوجد فوق رأسه صليب كبير باللون الأخضر، وبعدها تم إشعار النيران الكثيفة ووضع المذنبين بداخلها وهم يصيحون لكي تلتهم أجسادهم وتمحى أثارهم، وخلال هذا العمل الموحش والغير أدمي يبتهج المشاهدين وتتعالى أصوات الضحك والسرور منهم، وهكذا تواجدت الكثير من الحفلات وبأشكال مختلفة مثل القاعات المظلمة التي كان يوجد بها سحابات المسامير لتمزيق الأجساد، والأكاليل الحديدية المثبت بها مسامير من الداخل والتي يتم تطويق رقبة المذنب بها وتخنقه حتى يسيل الدم منه ويموت.
ختامًا
في الأخير يجب عليك معرفة أن محاكم التفتيش هذه هي من أكثر المؤسسات وحشية في التاريخ، وكان تختبئ خلف ستار الدين والكنيسة، فكما تعلمون أن أغلب الناس يعظمون رجال الدين ويصدقون على أقوالهم وأفعالهم بدون إمعان أو تفكير، فهم يرون أن رجال الدين هم أشخاص حباهم الله لخدمته ويعرفون الصحيح من الخاطئ ما يخفى عن أعين البشر، وهذا ما أدى إلى تعذيب وقتل مئات الآلاف من الأبرياء.
الكاتب: أحمد علي