تعد الصناعة في اليابان إحدى الركائز الرئيسية التي أقيم عليها اقتصاد الدولة والذي يعد من أقوى النظم الاقتصادية على مستوى العالم، وهي تعد المنافس الأول لكبرى الدول الرائدة في مجال الصناعة وفي مقدمتهم ألمانيا والولايات المتحدة الأمريكية. ترى لماذا؟ وما سر تفوق الصناعة في اليابان وبلوغها تلك الدرجة من التقدم؟
عوامل تميز قطاع الصناعة في اليابان :
ازدهار قطاع الصناعة في اليابان هو نتاج مراحل التطور التي مرت بها على مر العقود الماضية وتحديداً منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى بدايات الألفية الحالية، ومن أبرز نقاط التحول التي مرت بها الصناعة اليابانية الآتي:
تطبيق نظرية الجودة :
كانت تنمية الصناعة في اليابان جزءاً أصيلاً من برنامج التنمية الشاملة وإعادة الإعمار الذي تبنته الحكومة في أعقاب الحرب العالمية الثانية التي كانت اليابان إحدى أكثر دول العالم تأثراً بأحداثها، والتنمية هنا لم يكن مصوداً بها افتتاح عدد أكبر من المصانع من أجل رفع معدلات التصدير وبالتالي جني أرباح أكبر، بل كان الهدف منها جعل اليابان إحدى الدول الرائدة في هذا المجال.
قامت الحكومة آنذاك باستضافة أصحاب نظرية الجودة وهما الدكتور إدوارد ديمنغ والمهندس جوزيف غوران، وقامت بتنظيم العديد من المؤتمرات لهما ودعت لها كبار رجال الأعمال ورواد الصناعة في اليابان والعلماء، وقد لاقت نظرية الجودة إعجاب الجميع وخلال فترة قصيرة أصبحت مطبقة بشكل صارم داخل مختلف المؤسسات الصناعية اليابانية، وهو ما ساهم بصورة مباشرة في رفع مستوى جودة المنتج الياباني وبالتالي زاد معدلات الطلب عليه عالمياً وبناء على كل ذلك انتشر على نطاق أوسع.
العلاقة بين الجودة والغزو العالمي :
بعد فترة وجيزة من بدء تطبيق قطاع الصناعة في اليابان لمفاهيم نظرية الجودة الصناعية أصبح المنتج الياباني هو الأكثر شعبية وشهرة على مستوى العالم، حيث حاز على ثقة العملاء واكتسب شهرة واسعة حول العالم، حتى أن خلال سنوات قليلة أصاب الركود الصناعة الأمريكية ولم تعد الخيار الأول بالنسبة للمستهلك العالمي، ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل أن المنتج الياباني استطاع هزيمة المنتج الأمريكي في عقر داره وارتفعت حصة المنتجات اليابانية في السوق الأمريكي من 4% إلى 20%.
السر في ذلك الانتشار والنجاح يرجع إلى سبب واحد فقط وهو إلزام الجهات الحكومية كافة رجال الصناعة بتطبيق أعلى معايير الجودة، ومن ثم لم يكن هناك منتجاً يابانياً واحداً يغادر المصنع إلا بعد إجراء فحوصات واختبارات عديدة للكشف عن أي خلل أو عيب موجود به والعمل على إصلاحه قبل طرحه في الأسواق، الأمر الذي جعل المنتج الياباني محل ثقة المستهلك والخيار الأول بالنسبة له.
استيراد التقنيات الصناعية والاستفادة من الخبرات :
أحد أبرز العوامل التي ساهمت في وصول الصناعة اليابانية إلى المكانة التي تتمتع بها في الوقت الحالي هو أن القائمون على هذا القطاع طبقوا القول المأثور “نبدأ من حيث انتهى الآخرون”.. أولت دولة اليابان اهتماماً بالغاً بقطاع الصناعة في أوائل الخمسينات، وخلال الفترة ما بين 1951 وحتى 1984 كانت قد أبرمت حوالي 42 ألف عقداً مع جهات دولية الهدف منها استيراد التقنيات الصناعية المتطورة للارتقاء بالقطاع الصناعي في بلادهم.
تم إرسال بعثات يابانية إلى الدول الرائدة في المجال الصناعي بهدف نقل الخبرات العالمية في هذا القطاع إلى رواد الصناعة في اليابان، وقد كانوا حريصون على انتقاء التقنيات الأحدث والأفضل، وهو الأمر الذي كان له تأثير إيجابي مباشر على الصناعة في اليابان التي شهدت عدة قفزات نوعية خلال فترة زمنية وجيزة نسبياً.
العمل على تحسين المنتجات :
كان القائمون على الصناعة في اليابان يعون أن نقل الخبرات والتقنيات الحديثة قد يكون أمراً كافياً لوضعهم على قدم المساواة مع مجموعة الدول الرائدة -آنذاك- في هذا المجال، مثل الولايات المتحدة الأمريكية وبعض دول قارة أوروبا، لكنه في ذات الوقت ليس كافياً ليضمن لهم الريادة والتفوق عليهم.
بناء على ذلك لم يقتصر الهدف من إرسال البعثات التعليمية للخارج هو نقل التقنيات الصناعية الحديثة فحسب، بل أن دراسة الجدوى لذلك البرنامج التدريبي كانت تشمل محورين الأول هو نقل الخبرات والتصميمات وإتقان التعامل مع تقنيات الصناعة الحديثة، والثاني هو تخريج كوادر يابانية قادرة على التطوير والابتكار وبالتالي تحسين جودة المنتجات مما يضمن لهم القدرة على منافسة منتجات الدول الأخرى والتفوق عليها.
تنوع المؤسسات الصناعية في اليابان :
من أبرز أسباب ازدهار الصناعة في اليابان هو أن ذلك القطاع يعتمد على أنماط متعددة من المؤسسات الاستثمارية، منها المجموعات العملاقة والتكتلات الاقتصادية الكبرى التي تعد الداعم الأول للاقتصاد الياباني وتحظي بمساندة الدولة متمثلة في وزارة الصناعة. هذا بالإضافة إلى مجموعة الشركات والمؤسسات الأصغر والتي تعد أكثر قدرة على التكيف مع مختلف الظروف والتغيرات الاقتصادية ويمكن اعتبارها بمثابة حائط الصد الذي يقلل من شدة تأثير الأزمات المالية العالمية على الاقتصاد الياباني.
يشار هنا أيضاً إلى أن أحد أسباب ريادة اليابان يتمثل في كون العلاقة التي تربط بين مؤسساتها الصناعية أقرب إلى التكامل من التنافس، أي أن جميع المؤسسات تعمل ضمن خطة واحدة الهدف منها الارتقاء بمستوى المنتج الياباني والتمكن من غزو أسواق جديدة حول العالم.
التطور والتعدد :
أثبتت التجربة العملية أن قطاع الصناعة في اليابان شديد المرونة وقابل للتطور بشكل مستمر، حيث أن الصناعة اليابانية في البداية كانت تقتصر على صناعة النسيج بالإضافة إلى عدد من الصناعات الأساسية. لكن مع مرور السنين وتحديداً مع بداية الستينات اقتحمت اليابان العديد من المجالات الصناعية الأخرى وسرعان ما تفوقت على الدول الرائدة بها بفضل تطبيقها لنظرية الجودة بحذافيرها.
تطورت الصناعة في اليابان بشكل ملحوظ على مر العقود لتتماشى مع متطلبات السوق العالمي وتلبي احتياجاته وبالتالي تحافظ على ريادتها ومكانتها، ويشمل هذا القطاع في الوقت الحالي العديد من المجالات الصناعية من أبرزها الآتي:
- الصناعة الميكانيكية وتشمل صناعة السيارات والآلات والمركبات المختلفة
- الصناعات الثقيلة
- صناعة السفن
- صناعة الإلكترونيات
- الصناعات التكنولوجية الدقيقة
الازدهار والأزمات والصمود! :
شهد العالم في أوائل الألفية الحالية حالة من التضخم الاقتصادي المفاجئ في بعض الدول وهو ما أثر على أداء البورصة العالمية وانعكس بأشكال سلبية عديدة على الدول ذات الاقتصاد القوي، وبناء على ذلك فإن قطاع الصناعة في اليابان قد شهد تراجعاً ملحوظاً في 2008 متأثراً باشتداد الأزمة المالية العالمية وتأثيرها البالغ على الاقتصاد الياباني والعالمي بمختلف قطاعاته، حيث انخفضت معدلات الطلب على السيارات وهو ما تسبب في إغلاق بعض المصانع وارتفاع معدلات البطالة، خاصة أن تلك الأزمة رافقها ارتفاع ملحوظ في سعر الين الياباني في أسواق تداول العملات وهو ما أدى خفض معدلات الصادرات اليابانية.
أعلنت الحكومة اليابانية -على إثر هذه الأزمة- انتهاء أطول فترات الازدهار الاقتصادي في البلاد، بقدر ما كان ذلك صادماً إلا أنه لا يعني أن قطاع الصناعة في اليابان قد قضي عليه، بل ظل المنتج الياباني -وإن قلت عائداته- قادراً على المنافسة في الأسواق العالمية بفضل مستوى الجودة التي يشتهر به.