تُعتبر بطولة كأس العالم بلا أدنى شك البطولة الأعظم في العالم على مستوى كرة القدم، بل لن نُبالغ إذا قلنا أنها الأعظم مقارنةً مع كل البطولات الأخرى، اللهم إلا بطولة الأولمبياد التي تتمتع بنفس الأهمية تقريبًا، والحقيقة أنه بالرغم من كل هذا الاهتمام والشغف الذي تحظى به تلك البطولة العريقة إلا أننا في نهاية المطاف نجد أنفسنا أمام بطولة تُقام كل أربع سنوات فقط وليس بشكل سنوي مثلما هو الحال مع أغلب البطولات الأخرى، بمعنى آخر، ذلك الشخص الذي يعيش ستين عامًا على الأرض لن يرى بطولة العالم في حياته أكثر من خمسة عشر مرة، هذا على اعتبار أنه سيبدأ بمتابعة اللعبة منذ سن الرابعة، وطبعًا أمر مثل هذا أثار في البداية اندهاش البعض، ثم بعد ذلك أثار حفيظتهم وجعلهم يبحثون خلف الأسباب التي أدت إلى كل هذا البعد بين دورات بطولات كأس العالم، فما هو مُبرر ذلك يا تُرى؟ الإجابة تأتيكم فيما يلي.
اتباع أسلوب تصعيد الشغف من أجل بلوغ الهدف
هناك أسلوب شهير يعرفه الجميع فيما يتعلق بعالم الكرة أو الفن أو السياسة أو أي مجال آخر، ذلك الأسلوب يقوم على عدم منح المستهلك السلعة التي يحتاج إليها بسهولة وبصورة سريعة كيلا ينتهي الأمر بالملل منها وهجرها، بل يجب أن يشعر بأن تلك السلعة التي سيحصل عليها قد جاءت بعد عناء شديد، وأنها تستحق فعلًا كل هذا العناء، وإذا طبقنا هذا الأمر على المُتحكمين في بطولة كأس العالم فسنجد أنهم يتبعون ذلك الأسلوب بحرفية شديدة، فهو يعرف أن كأس العالم إذا أُقيم كل عام لن يكون بهذه الأهمية التي يحظى بها عند إقامته كل أربع سنوات، وتاريخ باقي البطولات يشهد على ذلك الأمر الذي يُمكن لأي مُسوق إدراكه بسهولة شديدة.
مثلًا في البطولات الأخرى فإن أي بطولة تُقام بشكل سنوي تُصبح في حكم البطولة العادية، لن يشعر العالم بأكمله بها ولن يتغير شيء في حالة توقفها لسنة من السنوات، لكن كأس العالم الذي يأتي كل أربع سنوات أمر مختلف تمامًا، فمثلًا عندما توقف في بعض فترات الحروب العالمية تأثر الناس للدرجة التي جعلتهم يعتبرون ذلك التوقف أحد الآثار السلبية للحروب، وهكذا في مواقف أخرى كثيرة أثبتت أن إقامة البطولة على فترات متباعدة طويلة صعدت كثيرًا من الشغف له.
عدم القدرة على تجميع لاعبي العالم كل عام
من ضمن الأسباب التي تجعل كأس العالم يحظى بكل هذه الأهمية أنه عندما يُقام كل أربع سنوات فإنه يكون جامعًا لكل لاعبي العالم المميزين، مما يؤدي بالتبعية إلى تركيز العالم كامل انتباهه إلى الرقعة التي تُقام فيها البطولة من أجل متابعة المُميزين في اللعبة المُحببة بالنسبة لهم، ومن ناحية أخرى نجد أنه من الصعب جدًا أن يتم تجميع هؤلاء اللاعبين الذين نتحدث عنهم بهذه السرعة وفي تلك الفترات المتقاربة، فالأمر يا سادة ليس سهلًا بالمرة، وتجمع هؤلاء اللاعبون حدث يستدعي الكثير من التخطيط الذي قد يأخذ أعوام عديدة فيما يُعرف باسم الأجندة الدولية.
لاعبين المنتخبات خلال الأعوام الأربعة يكونون في أنديتهم، ملتزمون ببطولات ودوريات أخرى، هذه البطولات في واقع الأمر قد تبدو بالنسبة لهم أهم لأنهم يحصلون من خلالها على أكبر قدر ممكن من الأموال في حين أن اللعب للمنتخبات كما نعرف يكون بصورة مجانية، فلا يوجد لاعب يخدم بلده مقابل الأموال، ولهذا فإن الاتفاق الذي أُعلن منذ البداية أن تكون البطولة مُقامة على مسافات متباعدة تُراعي العوائق السابقة، هذه المسافة المناسبة هي الأربعة أعوام المُتبعة حاليًا.
وجود بطولات أخرى هامة
طبعًا مما لا خلاف عليه أن كأس العالم يُعتبر أهم مناسبة كروية تُقام في العالم بأكمله، لكن هذا لا يتعارض بالتأكيد مع وجود بطولات أخرى هامة، صحيح أنها ليست بنفس القدر من الأهمية لكنها تبقى في النهاية مهمة، وذلك مثل البطولات القارية التي تُقام كل عامين، وهي بطولات تُقام على مستوى القارة فقط وتكون المنافسة بين المنتخبات التي تقبع داخل القارة فقط، ومن هذه البطولات على سبيل المثال بطولة أمم أوروبا للمنتخبات وبطولة أمم أفريقيا وأمم أسيا أيضًا، كل هذه البطولات يتم تجميع اللاعبين الدوليين فيها كل عامين، وإذا كنا نحتفظ بحدث كبير مثل كأس العالم فلا يُمكن أبدًا أن يُقام خلال نفس المدة، وإنما كانت مدة الأربع سنوات شبه كافية ومناسبة لحجم الحدث.
أيضًا ثمة بطولات أخرى تُقام خلال فترة الأربع سنوات بشكل سنوي، وهي ليست هذه المرة على مستوى المنتخبات، وإنما الأندية، لكنها في غاية الأهمية كذلك، ومن هذه البطولات دوري أبطال أفريقيا ودوري أبطال أسيا ودوري أبطال أوروبا، وخاصةً تلك البطولة الأخيرة التي يُقال إنها الأكثر متابعة من قِبل الناس بعد كأس العالم، بيد أنها تُقام بنظام سنوي، فلا يُمكن أن نظل طوال السنة نلعب في دوري الأبطال ثم نُقيم كأس العالم سنويًا أيضًا، وإنما يجب إعمال مبدأ رفع الشغف الذي تحدثنا عنه مع أحد البطولتين، وقد وقع الاختيار على كأس العالم.
إعطاء فرصة لإجراء التصفيات المؤهلة لكأس العالم
لكي تُقام بطولة كأس العالم فإن الأمر لا يبدو أبدًا بدرجة السهولة التي نتوقعها، فأولًا تُقام الكثير من التصفيات قبل إجراء البطولة، تصفيات تتم على مستوى العالم بأكمله وتلعب بها أي دولة تُمارس كرة القدم، حتى ولو بدأت في ممارستها قبل شهر واحد فقط من بداية التصفيات، المهم أن تكون تابعة للاتحاد الدولي، بعد ذلك يحق لها المُشاركة في التصفيات من بدايتها، والحقيقة أن هذا الأمر يحدث بسبب أهمية كأس العالم وقدر الإنجاز الذي تُحققه أي دولة تلعب به، وبالتالي فإنه من المنطقي إعطاء الجميع فرص متساوية في الوصول إلى ذلك الحلم، ثم بعد ذلك نترك الأمر للمنافسة من أجل تحديد الأحق بالتواجد حقًا في هذا المحفل الرياضي العظيم، ولهذا يستغرق الأمر أربع سنوات بالكاد.
التصفيات المؤهلة لكأس العالم عادةً ما تبدأ بعد انتهاء نهائيات كأس العالم مباشرةً، وفيها يتم لعب عدد كبير جدًا من المباريات على أكثر من مرحلة، مجموع هذه المراحل يصل في النهاية إلى ثلاث على الأكثر واثنين على الأقل، كل مرحلة تأخذ حوالي عام ونصف، أي أننا نتحدث عن ثلاثة أعوام، ليبقى بذلك عام واحد يتم فيه إجراء القرعة النهائية وإعطاء مساحة للمنتخبات من أجل تجهيز الأمور الخاصة بالإقامة والتنقل وكل هذه الأمور، ربما ستكتشفون في النهاية أن الأربع سنوات ليست في الأصل سوى مدة قليلة تفصل بين حدث مهم مثل كأس العالم.
منح المنظم كامل الوقت لأخذ الاحتياطات وتجهيز كأس العالم
هناك عنصر هام في كأس العالم ربما لا يلتفت إليه البعض، وهو المنظم، ذلك الكيان الذي يتولى الإشراف على البطولة وتجهيز كافة الإمكانيات من أجل خروجها في النهاية على أفضل نحوٍ مُمكن، والحقيقة أن هذا المُنظم يتم اختياره من قِبل الاتحاد الدولي قبل حوالي دورتين من انطلاق البطولة، أي ثمانية أعوام بالتمام والكمال، وعلى الرغم من كِبر هذه المهلة إلا أنها لا تكون كافية من أجل التجهز لعرس كروي هام مثل كأس العالم، ولهذا فإنه من الصعب جدًا أن تكون البطولة مُقامة سنويًا ويكون المُنظم غير قادر على التجهز، فكان من المناسب جدًا تحديد مدة الأربعة أعوام كمهلة بين البطولتين.
منظم كأس العالم يقوم ببناء ملاعب جديدة، والملعب الجديد قد يأخذ من ثلاث إلى خمس سنوات، كما أنه يقوم كذلك ببناء الفندق التي من المفترض أن تستقبل الفرق والجماهير المُصاحبة له، وهي أصلًا العملية التي من المفترض أن يجني فيها المنظم الأموال التي قام بدفعها على التجهيزات والإنشاءات، صحيح أن الأمر بالنسبة للبلد المنظمة يكون اقتصادي بحت إلا أنه لا يتم بالسرعة الجنونية التي نتخيلها، وفي الواقع مهلة أربع سنوات تبدو مناسبة جدًا كما تدل كل الشواهد.
تجريب المُنظم من خلال بطولة كأس للقارات
إذا أردنا أسبابًا أخرى لجعل بطولة كأس العالم بطولة لا تُقام إلا كل أربع سنوات فإن التجريب سوف يبدو سببًا قويًا جدًا، ونحن هنا نتحدث عن تجريب المنظم، وقد يسأل البعض عن الطريقة المثالية التي يُمكن من خلالها تجريب المنظم والخروج بحكم مُتقن عليه، والحقيقة أن الطريقة المثالية هي إقامة بطولة كأس عالم مُصغرة تأخذ عشر أيام على الأرجح، تلك البطولة هي كأس العالم للقارات، والتي تُقام قبل عام بالتمام والكمال من إقامة بطولة كأس العالم الكبرى، وفيها نرى الكيفية التي ستتعامل بها الدولة المنظمة مع البطولة عند تنظيمها داخل أراضيها.
يتنافس في بطولة كأس العالم للقارات الفائزين ببطولة الأمم في كل قارة، هذا بالإضافة إلى الدولة المنظمة والدولة التي حظيت على كأس العالم في النسخة الماضية، وبهذا يكون لدينا ثماني فرق يتنافسون فيما بينهم عن طريق نظام المجموعات، الأهم من المسابقة نفسها وكونها بطولة هامة أنها تكشف حقًا عما ستفعله هذه الدولة عندما تُقام بطولة العالم الكبرى بها، كيف ستتعامل وما هي درجة استعداد الملاعب والمُنشآت الرياضية بها، وهذا سبب هام جدًا يجعل البطولة تأخذ كل هذه الفترة حتى تُقام، كما ترون، الجميع يُريد أفضل النتائج الممكنة.
تسويق البطولة على أفضل نحو ممكن
بطولة كأس العالم ليست مجرد حدث كروي عادي، وإن كان هذا هو الهدف الرئيسي منه بكل تأكيد، لكن الاتحاد الدولي المُشرف على اللعبة يقوم أيضًا بالخروج من تلك البطولة بأكبر مكاسب مادية مُمكنة، وهذه المكاسب تأتي من خلال تسويقها، فبالتأكيد كل دول العالم ترغب في الحصول على هذه البطولة وتقديمها للمشاهدين من خلال المحطات التلفزيونية العملاقة، لذلك فإن الاتحاد الدولي للعبة، ومنذ انتهاء النسخة الجارية يبدأ في التفكير بالنسخة القادمة وكيف سيقوم بالحصول على أعلى المبالغ المتاحة، وذلك من خلال مزاد علني تشترك فيه كل القنوات الرياضية، ومن يدفع أكثر يحصل في النهاية على حقوق البث الحصرية، وهو إنجاز ما بعده إنجاز بكل تأكيد.
تسويق البطولة كذلك يتم من خلال طريقة أخرى، وهي طواف الكأس في كل دول العالم، وهذه الجولة بالتأكيد تأخذ الكثير من الوقت تمامًا مثلما هو الحال مع التسويق التلفزيوني الذي يمتد لسنوات وسنوات، ولهذا كله نعود ونؤكد على أن وجود أربع سنوات كفارق بين كل بطولة وأخرى مدة مناسبة جدًا.