مما لا شك فيه أن سيف الله المسلول خالد بن الوليد اسم لا يختلف عليه اثنان عند التفكير في وضعه على رأس قائمة عظماء المسلمين، هؤلاء العظماء الذين لولاهم، بعد إرادة الله بالطبع، لما وصل إلينا الإسلام ولما أصبحنا مسلمين بفضل الله ونعمته، وهذا أمر نحن لا نمن به عليهم، وإنما هو حقهم الذي لا يستطيع أحد زحزحته عنهم، لكن فيما يتعلق بخالد بن الوليد فإن قصته سوف تبدو أكثر إثارة عندما نرغب في التحدث عنها أو حتى التطرق إليها سريعًا بشكل خاطف، وتلك القصة تمتد إلى قبل الإسلام، الذي جاء متأخرًا قليلًا بالنسبة لخالد، وحتى بعد الإسلام وما حدث في هذه الفترة من أمور مُثيرة، وأهمها بلا أدنى ريب إبعاده عن قيادة الجيش المسلمين من قِبل عمر بن الخطاب فور أن تولى الخلافة عقب موت الخليفة الأول أبي بكرٍ الصديق، فلماذا يا تُرى قام بن الخطاب بفعل ذلك؟ السطور القادمة تحمل الإجابة فتابعوها.
ميل خالد بن الوليد للمخاطرة
منذ أن كان الصحابي الجليل خالد بن الوليد قائدًا في جيوش المشركين قبل إسلامه وهو يُفضل المجازفة والمخاطرة بشكلٍ كبير، وهذا بالطبع أمر لا يُعيبه، وإنما ينم على جرأته وقوته، حتى أنه كان غالبًا ما ينجح ويُسجل انتصاره، وقد فعل نفس الشيء عندما أصبح قائدًا في جيوش المسلمين بعد إسلامه، لكن الأمر ببساطة أن الخليفة عمر بن الخطاب كان يُفكر في أمور المسلمين بدرجة حرص لا يُمكن تخيلها، وكان رؤوفًا بهم للدرجة التي تجعله يعتقد أنه لو عثرت دابة في أرض المسلمين فسوف يُحاسب عليها يوم القيامة أمام الله، وهذا ما جعله يُفكر في هذا القرار كأحد القرارات الموضوعة على رأس قراراته الهامة فور تولي الخلافة، وهو قرار عزل خالد بن الوليد عن قيادة الجيش.
تفكير عمر جاء من منظور أن خالد يُمكنه المخاطرة والمجازفة بلا شك، لكن عندما يتعلق الأمر بنفسه فقط، أما فيما يتعلق بجيوش المسلمين فإن عمر كان لا يضمن السلامة والنجاة في كل مرة، حيث كان يخشى أن يُخالفه التوفيق في مرة من المرات فينتهي الوضع بمأساة لا يُريدها أحد، خاصةً في ذلك التوقيت الحرج في حياة المسلمين، ولهذا جاء القرار.
الخوف من فتنة الناس بخالد بن الوليد
يُقال أيضًا أنه من ضمن الأسباب التي جعلت عمر بن الخطاب يقوم بعزل خالد بن الوليد أنه كان يخشى تمامًا أن يفتتن الناس به ويظنوا أنه رجل لا يُمكن هزيمته، وبالتالي لا قومة للمسلمين بعده، فقد كان خالد دائمًا مُنتصرًا في كافة المعارك التي خاضها، سواء قبل دخوله الإسلام أو بعد ذلك، فكان الناس ينظرون إلى الجيش ويقولون ما دام هذا الجيش به سيف الله وأسده خالد بن الوليد فإن الهزيمة لن تنال منهم، أي أنهم يعتقدون أن النصر يأتي بسبب وجود ذلك الرجل، وهو الأمر الذي انتبه إليه عمر بن الخطاب ورأى أنه يحمل الكثير من الخراب والدمار، فمثلًا إذا مات خالد في يوم من الأيام سيقول الناس أن كل شيء قد انتهى ولن نربح معركة أخرى مجددًا.
خوف عمر من هذا الأمر كان كبيرًا، فقد ذكرنا أن أول شيء كان ينظر إليه خليفة المُسلمين مصلحة المسلمين، وفيما يتعلق بعمر بن الخطاب فإن كان يقوم بذلك الأمر أكثر من أي شخص آخر تولى خلافة المسلمين، ولهذا كان ينظر في كل صغيرة وكبيرة، كان ينظر في أمور ربما يظن البعض أنه لا أحد سينظر إليها أو يُعره أي اهتمام، ومن ضمنها موضوع الفتنة بخالد بن الوليد وقوته، ولهذا جاء العزل كتبرير لذلك الخوف وشيء يُمكن مواجهته من خلاله.
شِدة خالد بن الوليد
أيضًا من ضمن الأسباب التي يُقال أنها كانت دافعًا كبيرًا لعزل خالد بن الوليد عن قيادة الجيش من قِبل خلافة المسلمين في هذا الوقت عمر بن الخطاب أن خالدًا كان شديدًا مع الجيش، وكان يُكلفهم بمهام تفوق قدراتهم، وهو أمر يختلف تمامًا عن المخاطرة والمجازفة اللذان تحدثنا عنهما من قبل، فشدة خالد مثلًا في أحد الحروب جعلته يسلك بالمسلمين طريقًا صعبًا وغير مطروق من قِبل جيش كبير بحجم جيش المسلمين، فقد كان وجود الماء مشكوك به، كما أن الدواب كانت مُعرضة للخطر بسبب سوء الطريق، لكن خالد قرر أن يسلكه دون أن ينظر إلى ضعفاء المسلمين في الجيش.
عندما نظر عمر بن الخطاب في الأمر وجد أنه سوف يؤدي في مرة من المرات إلى هلاك جمع كبير، فقد كان خالد، حسبما يرى عمر، ينظر إلى نفسه فقط وقوته الكبيرة التي يتمتع بها دون أن ينظر كما ذكرنا إلى ضعفاء المسلمين، ولهذا السبب عزله عمر وقرر عدم استمراره في منصب يحقق النصر الآن لكن فيما بعد ربما يكون سببًا في كارثة، هكذا كان ينظر عمر وهكذا اتخاذ قراره الشهير بعزل سيف الله عن قيادة الجيش.
الجمع بين الشدة واللين
هناك سبب آخر ينظر للمسألة من منظور مختلف تمامًا عن الذي ننظر منه، فلم يعزل عمر بن الخطاب خالد بن الوليد عن قيادة الجيش نظرًا لشدة خالد وقوته، بل لشدة عمر نفسه، أجل كما سمعتم تمامًا، فقد كان عمر كما ذكرنا رجل شديد في الحق وقوي جدًا للدرجة التي تجعل الشيطان يسلك شارعًا آخر إذا رأى عمر في نفس الشارع، وطبعًا كلنا نعرف القصص الشهيرة خلف عمر والطريقة الجريئة جدًا التي أعلن إسلامه من خلالها، ولهذا فإنه عندما تولى خلافة المسلمين ورأى أن خالد يتمتع بنفس القوة أشفق على المسلمين ولم يُرد أن يكون قائدهم وقائد جيشهم شخصين بصفات واحدة.
خليفة المسلمين دائمًا يُعتبر القائد الأعلى للجيوش، وهذا يعني أن جيش المسلمين كان يقوده قبل عزل خالد بن الوليد شخصين شديدين، ولهذا كان من رجاحة عقل عمر بن الخطاب أن يتم تعيين شخص لين مع المسلمين لكي يستعين اللين بالشديد وتنقضي مصلحة المسلمين في نهاية المطاف، وهذا الرجل الذي عينه عمر لهذه المهمة كان أمين الأمة أبو عبيدة بن الجراح، وهو شخص غني عن التعريف بكل تأكيد.
الثقة في أمين الأمة عبيدة بن الجراح
طبعًا لا يجهل أحد الصحابي الكبير عبيدة بن الجراح، والذي أطلق عليه النبي قبل موته لقب أمين الأمة، وقد كان عبيدة بمثابة الرجل الثاني في قيادة جيوش المسلمين وكان متوليًا القيادة بالفعل في بعض المناطق، لكن عمر بن الخطاب فور توليه لخلافة المسلمين رأى أن عبيدة مكانه الأساسي هو قيادة الجيش وليس الرجل الأول، وقد كان تبريره في ذلك أن عبيدة هو أمين الأمة، ولا يُعقل أن يكون أمين الأمة ليس قائدًا للجيوش، بل إن البعض قد قال بأنه كان مُرشحًا للخلافة في أكثر من مناسبة بعد وفاة النبي، وهذا يعني ببساطة أن ترشيحه لقيادة الجيش أمر طبيعي تمامًا.
نظرة عمر أيضًا وضعت في حسبانها رأفة بن الجراح بالمسلمين وقلبه الطيب، وهذا ما سيؤدي إلى التفكير ألف مرة قبل تعريض المسلمين للخطر، وذلك على العكس تمامًا من خالد بن الوليد الذي كان يُفكر في الأمر ثم يخوضه مباشرةً مُعتمدًا في ذلك على شجاعته وليس على حالة الجيش معه، وإن كان طبعًا المُسلمين كلهم شجعان وأقوياء بالله، لكن الله تعالى قال أيضًا بعدم تحميل الضعفاء فوق مقدرتهم، وهذا ما كان يتوسم بن الخطاب فعله من قِبل أمين الأمة بن الجراح.
إشاعة أن خالد وزع الغنائم دون الرجوع للخلافة
هناك سبب ضعيف بعض الشيء يتم ترديده فيما يتعلق بهذا الأمر، وإن كان الجميع يعرف بالتأكيد أن أمر مثل هذا لا يبدر من الصحابة إلا أن البعض يدعون حدوثه ويدعون كذلك أنه سبب من الأسباب التي جعلت عمر يعزل خالد، ذلك السبب يقول إنه في أحد الغزوات، وبعد أن انتصر المسلمين كما هي العادة، فإنهم قد حصدوا الكثير من الغنائم كما هي العادة، وكان العُرف المُتبع في مثل هذه الظروف أن يتم أخذ الغنائم وردها إلى الخليفة في مكان تواجده من أجل توزيعها كما يرى، إلا أن خالد، وحسبما تقول بعض الروايات التاريخية، لم يُرجع هذه الغنائم وقام بتوزيعها على الجند قاصدًا بذلك رفع معنوياتهم، وهو أمر قد يكون صحيح إن حدث من وجهة نظر خالد لكنه قد أغضب كثيرًا الخليفة عمر بن الخطاب.
بالتأكيد هذا أمر أغضب عمر، إن كان قد حدث فعلًا، وقرر على إثره عزله من قيادة الجيش وتعيين أبي عبيدة بن الجراح أمين الأمة كما ذكرنا من قبل، لكن نعود ونُكرر مرة أخرى أن هذا الموضوع غير مؤكد تاريخيًا وأن بعض الروايات فقط هي من ذكرته، ويُمكن القول إنها روايات ضعيفة بالمناسبة، لكننا عندما نتحدث عن الأسباب فلا نُريد أن نترك أي سبب تم ذكره دون أن نتحدث عنه ونُعطيه مساحته.
تصرف عبيدة بن الجراح
بعد أن ذكرنا أبرز الأسباب التاريخية لمسألة عزل الفاروق عمر بن الخطاب لخالد بن الوليد من قيادة الجيش بقي لنا أن نذكر شيء هام جدًا في تاريخ الإسلام وموقف يُعتبر من أعظم المواقف التي حدثت بين القادة والمتنافسين، فبعد أن وصل أبي عبيدة بن الجراح خطاب عزل خالد من قيادة الجيش وتعيينه هو مكانه كان من الطبيعي أن يقوم بما سيقوم به أي شخص مكانه، وهو إبلاغ خالد على الفور بذلك القرار وتنحيته عن القيادة، لكن ما حدث كان مُدهشًا بحق ويدل على عِظم العلاقة بين الصحابة بعضهم البعض، حيث أن عبيدة قد أمر رسول عمر بالعودة سريعًا دون إعلام أي شخص دونه بالخبر، ثم قرر كتم ذلك النبأ حتى تنتهي المعركة كيلا يتأثر الجند وتضعف معنوياتهم مع عزل قائدهم خلال الحرب.
تصرف خالد بن الوليد عند علمه بالأمر لا يقل عظمة أبدًا عن تصرف بن الجراح، فعندما علم أن الخبر قد توارى عنه غضب غضبًا شديدًا بسبب عدم تنفيذه لتعليمات الخليفة سريعًا، ثم سلم القائد الجديد القيادة وانضم ليكون ضمن كتيبة الجند ناسيًا أنه قبل دقائق قليلة قائد لكل هذا الجيش، إنها أخلاق الصحابة، جميعهم اجتهد لرفع رعاية الإسلام وإعلاء كلمة الله وترجيحها على مصالحهم الشخصية وأغراضهم الدنيوية، هؤلاء صاحبتنا فمن الآن مثلهم!