مما لا شك فيه أن طرق الأبواب والاستئذان قبل دخول البيوت واحدة من أبرز الانتصارات التي حققها البشر في هذا العالم الكبير الممتد لتاريخ وعمر طويل، فطبعًا من المعروف أن البشر مع بداية نشأتهم وقبل ذلك التطور الذي مروا به لم يكونوا على دراية كاملة بكل قواعد الذوق والآداب، فكان من الممكن جدًا أن يقتحم شخص ما بيت الآخر دون أي تنبيه مُسبق، مما يتسبب له غالبًا في إحراج شديد تتوقف نسبته على ما كان يقوم به الشخص صاحب البيت قبل أن يحدث الاقتحام، لكن الآن أصبح من الشائع والغالب أن يبدأ الناس في الاستئذان قبل دخولهم أي مكان موصد، وربما يكون هذا الأمر داعي فقط للبهجة لكن البعض قد يجده مدعاةً كذلك للتساؤل حول الأسباب التي أدت إلى تعودنا على دخول البيوت بعد الطرق، فلماذا يا تُرى؟ هذا هو السؤال الذي سنحاول الإجابة عليه سويًا في السطور القادمة ولتكن البداية مع السبب الأول وهو رغبة البشر الفطرية في الحصول على الخصوصية.
ميل البشر الفطري للحصول على الخصوصية
من المعروف طبعًا أن البشر، وبصورة فطرية خالصة، يميلون للحصول على الخصوصية مهما كانت الطرق التي يُمكن من خلالها تحقيق هذا الأمر، فلكل شخص أسراره وأهدافه الخاصة التي لا يُريد للآخرين أن يعرفونها، حتى ولو اضطره ذلك إلى الدفاع بالروح والجسد، ومن هنا نشأت فكرة الأبواب من الأساس، فقبل هذا الوقت لم يكن الإنسان الأول يضع الأبواب على كفوفه المفتوحة طوال الوقت، حتى أدرك في مرحلة من المراحل أنه من غير المعقول الاستمرار في ظل حالة انتهاك خصوصيته هذه، ولذلك قام بإنشاء الأبواب، ثم بعد ذلك تطور الأمر إلى سن قانون طرق الأبواب قبل دخولها، فوجود الباب لا يعني أبدًا أنك غير مُرحب بك للدخول، وإنما فقط يعني أنه من الواجب عليك الاستئذان أولًا.
فطرة البشر في الخصوصية لم تتوقف كما نعرف عند الأبواب فقط، وإنما دائمًا ما كانت المحاولات مُستميتة من أجل فرض سياج كامل على الأسرار والخصوصيات، لكن الخصوصية الأعظم والأبرز جاءت في صورة باب يتم وضعه في مقدمة مكان المعيشة، وكل ما عليك أيها الضيف هو أن تطرق الباب أولًا وتستأذن قبل الدخول، فلا أحد يعرف أبدًا ما الذي يتواجد خلف ذلك الباب، لكن الشيء المؤكد أن صاحب المنزل لا يُريدك أن تراه، وإلا ما هدف وضع الباب أصلًا؟
دعوة الأحاديث النبوية والآيات القرآنية لذلك الأمر
ذكرنا من قبل أن أكبر سلطة جاءت أو ستأتي في تاريخ الإنسان هي السلطة الدينية، بمعنى أن البشر يُمكنهم أن يفعلوا أي شيء بقلب ميت إلا ذلك الذي يتعلق بمخالفة نص ديني واضح وصريح، حتى ولو لم يكونوا متدينين بالقدر الكافي فإنهم ستوقفون كثيرًا أمام سلطة الدين العظمى، وهذا ما يحدث بالضبط فيما يتعلق بمسألة طرق الأبواب والاستئذان بشكلٍ عام، فحتى ولو لم يكن البشر راغبين في منح أنفسهم نوع من أنواع الخصوصية فإنهم سيكونون بكل تأكيد راغبين في إرضاء الجانب الديني لهم، وهذا ما لن يحدث إلا من خلال اتباع التعليمات، والتي من ضمنها ما يتعلق بالاستئذان وبعض الأمور الأخرى التي تسبق دخول بيوت الآخرين.
النص الديني الصريح لم يترك مجالًا للشك في مسألة طرق الأبواب، ونحن هنا نتحدث عن النص الإسلامي على سبيل التحديد، فالنبي صلى الله عليه وسلم حث أصحابه أكثر من مرة على عدم دخول المنازل قبل الاستئذان مهما كلف الأمر، بل أنه كان يقوم بذلك الأمر أمامهم بنفسه كي يمنحهم نوع من أنواع التطبيق العملي، أما النص القرآني فهو طبعًا صريح ووردت فيه الكثير من الآيات الصريحة أيضًا، وإذا بحثنا في الأديان الأخرى فسنجد بالتأكيد ما يتعلق بالاستئذان، وهو ما يعكس اهتمام الدين الشديد بهذا الأمر.
رجوع عادة طرق الأبواب إلى العادات والتقاليد
أمر آخر قد يجعل من طرق الأبواب والاستئذان قبل دخول البيوت شيء حاسم لا رجعة فيه، وهو أن يكون متعلقًا بالعادات والتقاليد، وهذا ما نجده أيضًا في الاستئذان، فعلى الرغم من كون الوازع الديني الذي تحدثنا عنه قوي جدًا إلا أننا قد نجد البعض يُحبذ العادات والتقاليد عنه، فهو قد كبُر على ما رأى والديه عليه، راءهم يُقدسون خصوصية الغير ويطرقون الأبواب قبل دخولها، ولهذا تجده أيضًا يحذو حذوهم بلا تردد، فالعادات والتقاليد بالنسبة له أشد استحقاقًا للإخلاص والامتثال من الدين والنصائح الأخرى.
البعض يكون فكرة خاطئة عن العادات والتقاليد بأن أغلبها ما يكون عادةً غير مُبرر أو لا يمتلك أي أساس من الصحة، لكان هذا الأمر ليس صحيحًا، فبعض العادات والتقاليد القديمة لا تكون غير تابعة للدين وفي نفس الوقت صحيحة مئة بالمئة، ومنها عادة الاستئذان التي نتحدث عنها وأيضًا عادة إلقاء السلام، فحتى ولو اختلفت الصيغ فإن الأصول تبقى واحدة، ولهذا يُمكن اعتبارها بشدة سببًا قويًا من أسباب اعتياد الناس على طرق الأبواب.
وجود اهتمام تام من البيت والمدرسة
أغلب الأشياء التي نقوم بها الآن ونحن كبار هي في الأصل أشياء ترعرعنا عليها ونحن صغار، تلك الأشياء لم نكن لنتعلمها إلا من خلال منفذين هامين، هما البيت والمدرسة، ففي هذين المكانين تحدث الكثير من الأمور التي تعلق في ذاكرتنا حتى نكبر، ومن ضمن هذه الأشياء مثلًا الاستئذان وأيضًا طرق الأبواب قبل الدخول، فمنذ اليوم الأول لنا في المدرسة يُركز المدرسون على أشياء محورية وهامة لا تتعارض أبدًا مع الدروس العلمية لكنها قد تفوقها في الأهمية، ومثال على ذلك إلقاء التحية وكيفية التعامل مع الآخرين، ثم يكون هناك تركيز مُضاعف على موضوع الاستئذان الذي يؤثر كثيرًا في حياة الطفل، حيث أنه يُدرك منذ اليوم الأول أن لكل شخص حياته الخاصة التي لا يجب اقتحامها أبدًا.
مسألة التعلم تأتي عن الطريق التعود، هذا أمر مشترك في البيت والمدرسة، فكما ينصح المعلم تلاميذه بالاستئذان قبل دخول الفصل فإن الأب كذلك ينصح الأبناء بالاستئذان عند دخولهم البيت أو تحديدًا الغرفة التي يتواجد فيها أشخاص مُنعزلين، ولاحظوا أننا هنا نتحدث عن أشخاص من المفترض أنهم أصلًا أصحاب البيت، لكن هذا لا يمنع من زرع مبدأ الاستئذان فيهم من خلال هذه الطريقة التي نتحدث عنها الآن، ومن خلال محرابين هامين مثل البيت والمدرسة.
من تدخل فيما لا يعنيه سمع ما لا يرضيه
طبعًا جميعنا يعرف تلك المقولة الشهيرة التي تقول بأن من يتدخل فيما لا يعنيه يسمع غالبًا ما لا يُرضيه، وربما كانت هذه المقولة البسيطة سببًا قويًا من أسباب طرق الأبواب أو الحرص الشديد على القيام بهذه العادة، فالجميع بالتأكيد يُريد أن يعيش حياته على هذه الأرض مُحتفظًا بكرامته، يُريد ألا يجور على حقوق أحد ولا يجور أحد على حقوقه، واحترام الخصوصية يُمكن اعتباره طريقًا مُختصرًا لتلبية هذه الرغبة، فعندما تطرق الأبواب على الآخرين قبل دخولك عليهم سوف يعرفون بلا أدنى شك أنك شخص مُحب للخصوصية ومحترم لها، وبالتالي، وكنتيجة حتمية طبيعية، لن يدخلون عليك بيتك قبل أن يطرقون بابك، وهكذا تتغلغل فينا عادة طرق الأبواب التي نتحدث عنها.
احترام تلك المقولة جعل البعض يُفكر في خصوصيته أولًا قبل تلك الخصوصية التي سيقتحمها، صحيح أنك قد لا تتأثر تأثرًا كبيرًا عندما تقتحم خصوصية الآخرين دون أن تطرق أبوابهم لكنك ستفعل عندما ينقلب السحر على الساحر وينتهك الآخرين خصوصيتك دون أدنى مراعاة لك، ستشعر أنك شبه عارٍ في هذه الحياة، وإن أسوأ شعور يُمكن أن تشعر به في حياتك هو ذلك الشعور التي تكون فيه غير مُستتر بالكامل، مُباح للجميع، ولذلك كان طرق الأبواب مفاداة لكل هذا.
لأن القانون يُجرم اقتحام خصوصيات الآخرين
إذا كان هناك شخص ما لا تعنيه سلطة الدين أو العادات والتقاليد، وهذا أمر نادر بكل تأكيد، فإنه ثمة سلطة أخرى سوف تكون قادرة على حسابه بصورة فورية عند مخالفته لها، تلك السلطة هي سلطة القانون كما نعرف جميعًا، والتي جعلت احترام خصوصيات الآخرين أمر مفروغ منه، وهنا نحن لا نتحدث عن عقاب شفهي أو معنوي للمُخالف، كأن يتم منحه مثلًا لقب ما، وإنما نتحدث عن عقاب حقيقي يتمثل في السجن وربما ما هو أبعد من ذلك، ففي أي مكان في العالم توضع العوائق أمام الذين يقتحمون بيوت الآخرين ويتم توجيه تهم أبشع لهم ترتبًا على هذا الاقتحام، فمثلًا، قد يُتهموا بالسرقة وكذلك الشروع في القتل، كل هذا لأنهم فقط قد دخلوا بيت دون إذن صاحبه المُسبق.
سعي القانون إلى تغليظ العقوبة إلى هذا الحد كان بكل تأكيد سعي مُبرر، فهناك أشخاص بكل أسف لا يخضعون للدين أو العادات والتقاليد ويتهاونون معها، ولذلك فإنهم لا يجدون رادعًا إلى في صورة قانون يسري على الجميع، ثم بعد ذلك تترك مسألة تغليظ هذا القانون أو تخفيفه حسب واضعه والدولة التي يجري بها، فهناك دول قد تجعل من اقتحام الخصوصية جناية كُبرى وهناك من تجعلها جنحة أو أي شيء آخر خفيف، كلٌ على حسب وجهة نظره وتقديره للأمور.
كيف يحدث الاستئذان في صورته الصحيحة؟
بعد أن تحدثنا عن الاستئذان وذكرنا أبرز الأسباب التي قد تجعل الشخص يُبادر بالاستئذان قبل دخوله أي مكان مُغلق لابد أن البعض منكم يسأل الآن عن الطرق الصحيحة التي يُمكن من خلالها القيام بهذا الاستئذان، فهو ليس أمر بسيط، وإذا كنا نريد حقًا تحقيق الهدف منه فيجب علينا تأديته على أكمل وجهٍ ممكن، والبداية تكون بالوقت الذي نُقرر فيه أصلًا الذهاب إلى بيوت الآخرين من أجل الاستئذان، حيث أن هناك أوقات لا يُسمح فيها بذلك الأمر مثل آخر الليل ووقت الظهيرة أو أوقات الطعام بشكلٍ عام، لكن إذا افترضنا أن هذا الوقت ليس محظور وذهبنا من أجل الاستئذان، ماذا نفعل؟
الوقوف أمام المنزل يستدعي منك تجنب مكان الباب حتى لا يقع نظرك على شيء يُريد صاحب المنزل ألا تقع أنظارك عليه، بعد ذلك يجب عليك الالتزام بالعدد المناسب للطرقات، وهو ثلاث على أقصى تقدير، بعده يُمكنك أن تفهم بأن الشخص الموجود داخل المنزل لا يُريد مقابلتك، أو ربما هو ليس موجود من الأساس ولذلك لا تأتيك أي استجابة من الداخل، في كل الحالات الاستئذان فعل تحضري بالإضافة إلى كونه أحد تعاليم الشرائع الدينية.