مما لا شك فيه أن الكاتبة رضوى عاشور هي أيقونة الكتابة النسائية في الوطن العربي، بل يُمكننا القول إنها صالحة للمقارنة بكاتبات أخريات عالميات، كيف لا وهي التي كتبت ثلاثية غرناطة الشهيرة وهي بحق أحد أعظم ما كُتب باللغة العربية، ثم أنها منذ موتها وحتى الآن تحظى بتأبينٍ سنوي تمامًا كالذي يحظى به نجيب محفوظ، وهذا إن دل على شيء فهو أن تلك الكتابة لم تُعوض، فلم يثبت أن كاتبة عربية أخرى قد تمكنت من مشاركة رضوى مكانتها أو حتى منافستها، فهي كما يقولون في برج بعيد صعب المنال، والواقع أن أغلب القراء الشباب الذين لم يعرفوا برضوى من قبل يندهشون شدة الاندهاش من هذه المكانة وهذا الاحتفاء بسيدة الكتابة العربية، ولهذا بالتحديد سنقوم في السطور القادمة بالتعرف على الأسباب التي تجعل من رضوى عاشور أعظم الكاتبات العربيات، فهل أنتم مستعدون لدخول عالم الجميلة رضوى؟
كتابة ثلاثية غرناطة الروائية الشهيرة
إذا ما ذُكر محفوظ فإن الحرافيش وأولاد حارتنا وبين القصرين وأعمال أخرى كثيرة سوف تُذكر معه، وإذا ما ذُكر إبراهيم عبد المجيد فإن ثُلاثية الإسكندرية وخاصةً لا أحد ينام في الإسكندرية سوف يذكروا كذلك مع هذا الكاتب العظيم، وكذلك الحال تمامًا بالنسبة للكاتبة المصرية رضوى عاشور، فإذا ما ذُكرت ذُكر خلفها مباشرةً أشهر أعمالها وأكثرها انتشارًا بين أوساط القراء ثلاثية غرناطة، تلك الثلاثية البديعة التي انقسمت إلى ثلاثة أعمال تسرد تاريخ الأندلس من حيث الصعود والسقوط، لكن تلك الأندلس التي تُحدثنا عنها رضوى في روايتها مُختلفة تمامًا عن تلك التي نعرفها نحن ونقرأ عنها في أي مكان آخر، وهنا تكمن القوة الحقيقية لسيدة الكتابة العربية.
نُشرت ثلاثية غرناطة قبل وفاة رضوى بحوالي عقد ونصف، وتحديدًا في عام 1998، أي قبل وفاتها التي جاءت في عام 2014، وخلال هذه الفترة، وحتى بعد وفاة رضوى، شقت الثلاثية طريقها نحو الشهرة والانتشار في كل مكان في العالم، حيث تُرجمت إلى لغات عدة وتم بيع حقوق تحويلها إلى عمل تلفزيوني ضخم، ولا يزال القراء حتى الآن يُرشحون هذا العمل لكل من يُريد التعرف على الرواية العربية، ولهذا نقول إن هذه الثلاثية تُعتبر سببًا قويًا من أسباب شهرة رضوى.
امتلاك مشروع أدبي قوي وهادف
أكثر ما يُعيب الكُتّاب حاليًا أو في أي وقت آخر أنهم لا يمتلكون مشروع أدبي حقيقي، فحتى إذا كانوا يمتلكون القدرة على الكتابة فإنهم لا يُطوعون تلك القدرة في إنجاز مشروع أدبي قوي، وعلى النقيض تمامًا نجد رضوى عاشور وامتلاكها لذلك المشروع الأدبي أحد أهم أسباب كونها أفضل كاتبة في الأدب العربي، فمنذ ظهور رضوى وهي تكتب الكتابات الإنسانية التاريخية التي تهتم كثيرًا بالماضي وتُسلط الضوء على تأثير ذلك الماضي على المُستقبل، ومن قرأ ثُلاثية غرناطة يعرف جيدًا أن ما شرع في قراءته لم يكن عمل أدبي عادي، وإنما إحياء كامل لجزء هام من التاريخ العربي أو الإسلامي على وجه التحديد، إحياء يُقصد منه إثارة الاهتمام بالواقع الذي نعيشه حاليًا ومحاولة التعلم من أخطاء الماضي الأليم.
في باقي الروايات التي كتبتها رضوى مثل الطانطورية وغيرها من الروايات، حاولت سيدة الكتابة العربية استكمال نفس المشروع، حتى وإن اختلفت الحكايات وتغير الشخوص، لكن في النهاية يبقى الفكر واحد والنتيجة المُنتظرة واحدة، ولهذا نقول إن مشروع تلك السيدة يُعتبر من أهم العوامل التي ساعدت في تصنيفها كواحدة من أفضل الأديبات في العالم العربي، وإن كانت المُنافسة شبه بعيدة من قِبل مثيلتها، أو كي نكون دقيقين، ما زالت رضوى تبتعد بمسافة طويلة.
ترجمة أعمالها إلى أكثر من لغة
من النادر بعض الشيء أن تتم ترجمة أعمال روائية عربية، فأصلًا حركة الترجمة من روايات العرب بشكل عام مُنخفضة وشبه ضعيفة، بما في ذلك الرجال، حتى أن بعض الأدباء الجيدين يضيعون وسط هذا الإهمال ولا تترجم أعمالهم، ولهذا فإن حدوث حركة الترجمة داخل أروقة الكتاب النسائية أمر أشبه بالمستحيل، لكن بالنسبة لرضوى فإنه لا شيء أبدًا يبدو مستحيل أو استثنائي، ليس لشيء سوى أننا نتحدث عن أديبة استثنائية، أو أفضل كاتبة في الوطن العربي على وجه التحديد، ولهذا كان من الطبيعي جدًا أن تُترجم كتاباتها إلى أكثر من لغة، وبشكل مُحدد نشطت حركة الترجمة هذه مع بداية الألفية الثالثة، ودون حاجة للذكر فإن السبب الرئيسي في ذلك هو ثلاثية غرناطة البديعة.
قد يقول البعض أن ترجمة أعمال كاتب لا يعني أبدًا جودته، وهذا في الحقيقة أمر مقبول إلى حدٍ كبير، لكن ما ليس مقبول بالمرة أن يجري هذا القول على الكاتبات، فحتى لو كنت معصوب العينين وعلمت بوجود رواية نسائية عربية مُترجمة فاعلم دون أن تقرأ هذه الرواية أنك أمام عمل أدبي فريد، وبالتأكيد كتابات رضوى عاشور فريدة، وهذا يأخذنا إلى الحقيقة التي نتحدث عنها، وهي كون تلك السيدة أفضل كاتبة في الوطن العربي.
عدم الانخراط في قضايا المرأة فقط مثل بقية الكاتبات
هناك شبه عادة في عالمنا العربي، وهي أن النساء اللاتي يكتبن الروايات أو الأعمال الأدبية يُركزون اهتمامهم بشكلٍ كبير على القضايا المُتعلقة بالمرأة، وتحديدًا قضايا اضطهاد المرأة وإظهارها في صورة الكائن الضعيف الذي يتعرض للاعتداء بشكل دائم، ونحن هنا بالتأكيد لا نتحدث عن صحة وخطأ هذا الأمر، وإنما فقط نتعجب من أن كل الكاتبات يُعطين اهتمامهن لهذا النوع من الكتابة رغبةً منهن في التنفيس عن غضبهم ورفضهم لهذا الأمر، والحقيقة أن هذا المشاعر لا تُمثل مشكلة، وكتابتها أيضًا لا يُمثل مشكلة، لكن أن تُسخر الكاتبة كل جهدها وموهبتها من أجل خدمة هذا الغرض فقط فهذه هي المشكلة بعينها، وهذا ما لم تقم رضوى عاشور بفعله، ولهذا نحن هنا اليوم لنقول بملء الفم أنها الكاتبة الأعظم بين كاتبات الوطن العربي على مدار تاريخه.
كانت كتابات رضوى عاشور غير موجهة أو آخذة لنمط معين، بل إنها قد كتبت في كل المجالات تقريبًا، حتى أنها عندما ركزت على موضوع معين وضعت تركيزها هذا في التاريخ، وهو مجال بعيد كل البعد عن ميول النساء الطبيعية، لكن رضوى اهتمت به وأخرجته في أفضل صورة ممكنة لدرجة أن ثلاثية غرناطة تُعتبر من قِبل البعض مرجع تاريخي هام، عمومًا، كان هذا سببًا من الأسباب الرئيسية لاعتبار رضوى عاشور على قمة الكاتبات العرب، لكن هل تتوقف رحلة التميز عند هذا السبب؟ بالتأكيد لا، فالمتميز يمتلك الكثير من الأسباب لتميزه.
عدم ظهور أي كاتبة أخرى تفوقها
عاشت رضوى عاشور ما يزيد عن الستين عام، ومارست الكتابة نصف هذا العمر تقريبًا، وماتت قبل حوالي ثلاثة أعوام، وبالرغم من ذلك، وحتى وقتنا الحالي، لم تظهر أي كاتبة أخرى قادرة على خطف مكانتها التي تحدثنا عنها وقلنا أنها مكانة كبيرة لأسباب كثيرة، لكن المُلفت حقًا أن فلتة مثل هذه المرأة لم تتكرر حتى الآن ولا توجد حتى دلائل أو مُبشرات تقول أن هذا الأمر من الممكن حدوثه في يومٍ من الأيام، فمثلًا، عندما نتحدث عن نجيب محفوظ وعظمته نقول أن بعد محفوظ ظهرت أسماء كبيرة وستكبر أكثر في المستقبل حتى تصل ربما إلى مستوى محفوظ، وذلك مثل إبراهيم عبد المجيد وواسيني الأعرج وإبراهيم الكوني وأمير تاج السر، لكن فيما يتعلق بالكاتبات الإناث، من ظهر بعد رضوى عاشور؟
هناك إحصائية تقول أن أعداد الكاتبات الإناث تزيد كل عام بمعدل ثلاثة بالمئة، فإذا كان عصر رضوى شاهدًا على وجود عشر نساء يكتبن الرواية فإن العصر الحالي يشهد مئة امرأة على الأقل معروف أنهن يكتبن الرواية، لكن إذا دققنا النظر في هذه الأسماء وقمنا بتصفح كتاباتهم فسنجد أنها تبتعد بمسافة طويلة عن مجرد المنافسة، ولكي نكون منصفين، فإن السنوات الخمس الأخيرة شهدت عناء ظهور كاتبة يُقال أنها المرأة الوحيدة التي يُمكن في المستقبل أن تُنافس رضوى عاشور على لقب الكاتبة العربية الأعظم، وتلك المرأة هي الروائية الكويتية بثينة العيسي، عمومًا لننتظر ونرى ونحكم.
زواج رضوى عاشور من رجل عظيم وإنجاب رجل أعظم
قوة رضوى عاشور في عالم الأدب ليست نابعة فقط من قوتها الأدبية، وإن كان هذا بكل تأكيد هو السبب الرئيسي خلف هذه الشهرة، لكن هناك أيضًا بعض الأسباب الأخرى الهامة مثل الزواج من الأديب الكبير مُريد البرغوثي، فهذا الرجل طبعًا تاريخ حافل من العطاء في المجال الأدبي، وبالرغم من أن موهبته لم تفق أبدًا موهبة رضوى إلا أن شهرته ليست أقل منها، والحقيقة أن رضوى عندما تزوجت منه لم تكن بنفس الحالة التي هي عليها الآن، أو قبل وفاتها بالمعنى الأدق، ونقصد بذلك أنها لم تكن أديبة شهيرة، وإنما تلك الشهرة تم اكتسابها أثناء عيشها مريد، ولا نقصد بذلك أيضًا أن مريد هو السبب الأول في كل ما وصلت إليه، وإنما يُمكن القول أنه سبب من أسباب النجاح، وهذه هي مهنة الزوج على أية حال.
الحجر الصلد الآخر في حياة رضوى عاشور هو الشاعر الفلسطيني الكبير تميم البرغوثي، نجل رضوى عاشور ومريد البرغوثي، والذي استقى منهما الأدب بصورة وراثية جينية بحتة، حتى أصبح يُعرف الآن بكونه أفضل شاعر ناطق بالعربية، وقد برع تميم أيضًا خلال حياة رضوى، ولكم أن تتخيلوا أن عائلة كُبرى مكونة من هذه الأسماء الهامة، ما الذي ستكون عليه يا تُرى وإلى أي حدٍ يُمكن أن تصل؟ كم مقدار الإبداع الذي سيولد على أيديهم ويُعلي من مقدار كل شخص منهم في مجاله؟ هذه ربما إجابة السؤال عن كون رضوى أعظم الكاتبات العرب وعلاقة ذلك بأبنائها.
كاتبة ماتت ولم تمت حتى الآن
حياة الكاتب وموته لا يُحددهما صعود روحه إلى السماء، فهذا النوع من الموت هو ما نعرفه جميعًا، لكن ما حظيت به رضوى عاشور بفضل كتاباتها يُمكن القول إنه خلودٌ مجازي، بمعنى أن ذكرها لم ينقطع في الأرض حتى الآن، ولا يزال الناس يبحثون عن روايات رضوى القديمة والحديثة ويقرؤون فيها في محاولة لاستكشاف عالم رضوى السحري الذي لم تطرق إليه أي كاتبة أخرى، ولا حتى كاتب إن جاز التعبير، فالجميع الآن مُنشغل بقضية أتفه وأقل تأثيرًا بكثير من تلك التي كانت رضوى تكتب عنها عندما كانت على قيد الحياة، لكن أين رضوى الآن؟ ماتت، وأين أعمالها؟ لا تزال خالدة.