مما لا شك فيه أن حرب أكتوبر المجيدة التي قامت في عام 1973 هي النقطة المُضيئة في تاريخ العرب خلال القرن العشرين، فبعد ضياع القدس وسرقة فلسطين والهزيمة في الكثير من الحروب أمام الكيان الصهيوني جاءت حرب أكتوبر في النهاية لتكتب الانتصار الأول والأهم على الكيان الصهيوني الغاشم، والذي يعرفه البعض باسم إسرائيل، لكن البعض المُعترف به بكل تأكيد، أما الذين يُدركون حقيقة الأمور فلا يُطلقون أبدًا لقب الدولة على كيان لص مثل هذا، لكن في واقع الأمر نحن لا نهتم أبدًا بحقيقة ذلك الكيان وماهيته، وإنما نعترف بأنه يمتلك قوة كبيرة وأن مصر تمكنت في عام 1973 من تحطيم هذه القوة وزلزلة الكيان بأكمله، فلماذا كان انتصار مصر حاضرًا يا تُرى؟ هذا هو السؤال الذي سنحاول الإجابة عليه سويًا في السطور القادمة، ولتكن البداية مع السبب الأول والأبرز، وهو الاستعانة بالله.
الاستعانة بالله خلال أوقات الحرب
منذ اليوم الأول لتلك الحرب الخالدة وقد بدا جليًا أن المُقاتلين، وكل من لهم علاقة بهذه الحرب من الطرف المصري، قد أيقنوا بأن النصر لن يأتي إلا من عند الله تعالى، وأنه مهما بلغت قوة أحد الطرفين فأنها لن تقف أبدًا أمام إرادة الله، ولذلك كان الله حاضرًا في قلوب الجميع بلا استثناء، فمثلًا كلمة العبور كانت كما يعرف الجميع هي لفظ التكبير الله أكبر، ويُقال أنها كانت عندما تُقال كانت تدب الرعب في النفوس وتُزلزل العدو، وقد كانت كلمة واحدة قام بترديدها المسلم والقبطي على حدٍ سواء، وتخيلوا يا سادة المنظر المهيب في لحظة العبور والملايين يُرددون هذه الكلمة بلا انقطاع، ونحن هنا بالتأكيد لا نتحدث عن الذين خاضوا الحرب فقط، وإنما أيضًا الشعب الذي كان جالسًا يُتابع الأخبار من الراديو.
كان الله حاضرًا كذلك في موعد الحرب، فقد كان كما نعرف جميعًا شهر رمضان، وبالرغم من ذلك صمم الجنود على عدم خوض الحرب إلا وهم صائمون، وكأنهم يقولون إنهم سيفعلون أي شيء ليتقربوا إلى الله، حتى ولو كانت الحرب في الثانية عشر ظهر يومٍ حار ابتدأ بالصوم، كما نقول، لقد كان هناك عزم شديد على استحضار الله في القلوب، وبالطبع كان الله حاضرًا وعونًا للجنود خلال الحرب، والكثير من القصص تشهد على المعجزات الربانية التي وقعت خلال الحرب.
السرية التامة والاعتماد على عنصر المفاجأة
في الحقيقة، وبلا أدنى شك أو تحريف، كان الكيان الصهيوني في هذا التوقيت يتمتع بالقوة الشديدة، فقد كان يمتلك أحدث الأسلحة وجنود مُدربون على أحدث أساليب الحرب، كما أن النظام في هذا الكيان بذلك الوقت كان يقوم على تجنيد كافة المدنيين، لقد كان الجميع، رجال ونساء وشيوخ، مجرد جنود في جيش الاحتلال، وهذا ما أعطاهم في الواقع قوة كبيرة، وكأنهم جميعًا كانوا على قوة رجلٍ واحد، أضف إلى كل ذلك أن الولايات المتحدة الأمريكية كانت تدعمهم كذلك بكل ما لديها من نفوذ وأسلحة، أما المصريون فلم يكن لديهم سوى الله، وهو كافٍ بكل تأكيد لقلب الطاولة على كل هؤلاء مجتمعين، فهل هناك أحد أقوى من الله وأشد مكرًا منه!
ألهم الله المصريون إلى أمرٍ هام ما زال يُعتبر حتى الآن سببًا صارخًا من أسباب الانتصار في الحرب، وهو السرية التامة، حيث أنه ولأول مرة تمكن الفريق المصري من إخفاء الأسرار الحربية على الفريق الصهيوني، بل إن الأدهى من ذلك أن ساعة الصفر قد سبقها موجة من التعتيم عليه لدرجة أنه لم يكن هناك صهيوني واحد يتوقع أن مصر ستقوم بحرب شديدة مثل هذه، لكن في النهاية كانت الحرب وكان الانتصار العظيم.
الانتصار في حرب الجواسيس
سبقت حرب أكتوبر حرب أخرى كانت بين الجواسيس فقط، أولئك الذين يُعرف عنهم قدرتهم على حسم الحرب قبل أن تبدأ، فمنذ قديم الأزل اهتدى العالم إلى نظام التجسس وأدرك جيدًا أنه النظام الأمثل للحصول على المعلومات المتوقع أن تُفيد خلال الحرب، وإذا كنتم تعتقدون أن طريقة الحصول على معلومات سرية هامة يُمكن أن تكون من خلال سُبل شرعية فأنتم مخطئون تمامًا، فلكي تحصل على معلومة هامة هذه الأيام عليك أن تتجسس وتحصل عليها بأقذر الطرق الممكنة، هكذا يُمكنك الاستمرار وهكذا ستصل في النهاية إلى الانتصار.
فيما يتعلق بحرب أكتوبر فإن الجواسيس الذين تبعوا مصر كانوا يملكون من القوة والذكاء ما يجعلهم قادرين على إرباك الكيان الصهيوني، فقد كان الأمر يقوم على شقين، الأول الحصول على أكثر المعلومات سرية عن الكيان الصهيوني والثاني هو إيصال أكبر قدر من المعلومات الخاطئة إلى هذا الكيان من أجل بناء خططه على أشياء لا وجود لها من الأساس، وطبعًا نحن نذكر في هذا الصدد عظماء مثل جمعة الشوان ورأفت الهجان والكثيرين غيرهم كانوا سببًا مباشرًا في الانتصار بحرب أكتوبر المجيدة على عدو قوي بلا أدنى شك.
وقوف الدول العربية بجانب مصر
كذلك من ضمن الأسباب التي جلبت الانتصار للجانب المصري خلال حرب أكتوبر أن الدول العربية بأكملها وقفت بجانب مصر، سواء تلك التي تمتلك مصلحة في ذلك أو التي لن تستفيد أو تخسر أي شيء من فوز أحد الطرفين في الحرب، ففيما يتعلق بالجانب الذي يمتلك مصلحة في انتصار مصر كانت سوريًا هي اليد الثانية في هذه الحرب الشرسة، فقد ظفرت بجبهة كاملة وهاجمت في نفس الوقت الذي هجمت فيه مصر لزيادة ارتباك العدو، كما أنها أيضًا كانت سببًا في تشتيت قوته وبالتالي إصابته بالضعف الشديد، والحقيقة أن جبهة سوريا قد تحملت أكثر من طاقتها خلال الحرب نظرًا لضعفها بعض الشيء، لكنها أسهمت في النهاية بترجيح كافة الانتصار ناحية مصر.
فيما يتعلق بالدول التي لم تكن تمتلك أي مصلحة من الحرب فقد كانت هناك دول الخليج مثلًا، والتي قامت بمنع البترول وكل مواد الوقود عن الجانب الأمريكي خلال حرب أكتوبر ، وإذا سألتم عن علاقة ذلك بما يدور بين مصر وإسرائيل فالسر ببساطة يكمن خلف مساعدة الولايات المتحدة الأمريكية الكبيرة للكيان الصهيوني، والتي كادت أن تقلب الحرب رأسًا على عقب، لولا أن دول الخليج، وخاصةً السعودية، قد أوقفت تصدير المواد التي تمد مركبات الحرب بالوقود، فلم تعد هناك طائرة أو دبابة أو سيارة قادرة على التحرك، ومن هنا جاءت المساعدة الكبرى بشل حركة العدو ومن يسانده.
الحصول على دعم الدب الروسي
من الأشياء الهامة التي حصلت عليها مصر خلال حرب أكتوبر وكانت سببًا مباشرًا في الانتصار أنها قد حصلت على دعم الدب الروسي، أو الاتحاد السوفيتي كما كان يُسمى وقتها، حيث أن الروس كانوا في هذا التوقيت، وربما حتى الآن، لا يُعادون أحد أكثر من معادتهم للولايات المتحدة الأمريكية، ولذلك كانوا يبحثون عن الجانب الذي تقف فيه هذه البلد ثم يقفون في الجانب المُقابل لهم بصورة تلقائية، كانوا يُريدون الحصول على أي انتصارٍ ولو حتى معنوي، وكانت مصر في هذا التوقيت الصيد الرابح الذي يُمكنهم المراهنة عليه، فإذا كانت أمريكا قد دعمت إسرائيل بكل ما تملكه من قوة فإن الاتحاد السوفيتي لن يُفكر ولو للحظة في دعم مصر، والحقيقة أن مصر كانت المستفيد الأول من هذه اللعبة الشرسة.
استفادة مصر جاءت في صورة إمداد الاتحاد السوفيتي لها بكل ما تحتاج إليه من أسلحة، وطبعًا كلنا نعرف أنه في هذه الفترة لم يكن هناك أحد يجرؤ على صناعة السلاح في العالم سوى أمريكا والاتحاد السوفيتي، وإذا كانت أمريكا قد قررت مساعدة إسرائيل في التزويد بالسلاح فإن المنفذ الوحيد لمصر في هذه الحالة هو ذلك الكيان المُتحد، ولا أحد يعلم هل لو كانت الحرب الباردة على سيادة العالم لم تكن موجودة بين البلدتين العظمتين أكان من الممكن أن يقف الاتحاد السوفيتي في جانب مصر أم لا؟ عمومًا مهما كانت الإجابة فإننا لا نستطيع الإنكار أن هذا الدعم كان سببًا من أسباب الانتصار.
وجود الفريق سعد الدين الشاذلي خلال حرب أكتوبر
طبعًا كل الجنود المصريين الذين قاتلوا في هذه الحرب كانوا سببًا مباشرًا من أسباب الانتصار، ليس هناك أي عاقل يُمكنه إنكار هذه الحقيقة، لكن ثمة أبطال في الحرب ربما لم تكن الأمور لتسير بخير لو أنهم لم يكونوا موجودين فيها، ومن هؤلاء الأبطال الذين نتحدث عنهم الفريق سعد الدين الشاذلي الذي كان متوليًا لقيادة الجيش، ويُقال إنه أيضًا من وضع خطة الحرب كاملة وسعى جاهدًا لتطبيق عنصر المفاجأة بحذافيره، والجميع بالتأكيد يعرف أن الجيش المصري بعد انتحار عبد الحكيم عامر كان شبه مُدمر معنويًا، لذلك فإنه عندما يأتي رجل ويستطيع لم شمل الجيش خلال هذه الفترة القصيرة فإنه بالتأكيد يستحق الإشادة، وهذا ما قام به سعد الدين الشاذلي بالضبط، وللغرابة، لم يحصل على الإشادة التي يستحقها، بل يُقال أن الرئيس السادات حاول إبعاده عن المشهد من أجل ضمان نسب الانتصار له وحده، عمومًا في النهاية نحن هنا نقول أن هذا الرجل كما أوضحنا كان سببًا رئيسيًا من أسباب الانتصار في حرب أكتوبر .
وقوف الشعب المصري بجانب جيشه
طبعًا البعض منكم يقول الآن أنه أمر بديهي تمامًا أن تقف الشعوب خلف جيشها، لكن السؤال الذي نود طرحه عليكم، ما هو الوقوف من وجهة نظركم؟ في الحقيقة لقد ضرب الشعب المصري خلال هذه الحرب مثالًا يُحتذى به في مساندة الشعوب لجيشها، فهو أولًا، وقبل بداية الحرب أصلًا، ساهم بشدة في عنصر الخداع الذي اعتمدته القيادة المصرية، حتى ولو لم يُساهم فيه برغبته وعلمه بالأمر، لكنه ساهم فيه ومجاراته، فالشعب نفسه يا سادة لم يكن يعرف أنه سيدخل في حرب بعد وقتٍ قصير، وهذه أفضل فائدة لمن يعرف طبيعة الشعب المصري جيدًا.
خلال الحرب تغيرت كيفية الوقوف خلف الجيش وأصبحت أكثر تأثيرًا، حيث بدأ وقتها نهر الدم الذي أذهل العالم، والذي قيل أنه كان أكبر تبرع بالدماء في العالم بأكمله، وذلك في مستشفيات القوية المسلحة التي كان يذهب إليها الجنود المصابين خلال الحرب ليجدوا دماء أهاليهم من الشعب المصري في انتظارهم، ومن المعروف أنه في مثل هذه المواقف تكون الدماء سبب في العجز عن علاج بعض المرضى، لكن ما حدث وقتها كان النقيض تمامًا، فقد كان هناك فائض كبير نظرًا للتبرع الوفير، ولهذا نقول أن وقوف الشعب خلف الجيش كان سببًا مباشرًا من أسباب الانتصار.