مما لا ريب فيه أن أعظم ما حدث في تاريخ مصر والمصريين هو فتحها الإسلامي على يد عمرو بن العاص أثناء خلافة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، والحقيقة أن فتح مصر حدث جلل قد صاحبه الكثير من الكواليس والمشاورات، لكن هذا جزءٌ من التاريخ ليس موضوعنا التحدث عنه اليوم، وإنما فقط ما يعنينا هو ذكر الأسباب التي أدت إلى الفتح، فالجيش الإسلامي لم يكن أبدًا جيش غازي مُستعمر، وإلا لما استمرت الحضارة الإسلامية العريقة حتى الآن، وإنما فقط هو جيش فاتح، يرى أي بقعة في العالم تحتاج الإسلام فيهرول إليها، والتاريخ يشهد بكل تأكيد على معاملات الجيش الإسلامي مع الدول التي فتحها وكيف كان ذلك الفتح سببًا من أسباب نجدتها من ظلم حكامها أو طريق مُختصر من ظلامها إلى نور الإسلام، عمومًا، في السطور القليلة المُقبلة سوف نقترب سويًا من فتح مصر ونعرف أبرز أسباب ومبررات هذا الفتح.
وجود خير أجناد الأرض بها كما قال النبي
من أهم الأسباب التي جعلت الخليفة عمر بن الخطاب يوافق على قرار فتح مصر أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قال في حديثٍ له أن مصر تمتلك خير أجناد الأرض، ولذلك لم يكن من المنطقي أن يمتنع عمر عن فتح بلد ذكرها النبي في أحاديثه وشكر في جندها، حيث أن النبي طوال الوقت كان يُدرك حقيقة الأمور ويعرف بأمر ربه الكثير من الأشياء التي ربما لا يعرف بها أحد غيره يتواجد على هذه الأرض، فقد عرف من قبل، وتحديدًا خلال حفر الخندق، أن الله سيفتح على المسلمين بلاد الفرس والروم، وفي هذا الوقت ربما لم يكن أحد يتخيل حدوث ذلك في يومٍ من الأيام، لكنه حدث في نهاية المطاف وتحقق وعد الله لنبيه، وعلى نفس المنوال فكر بن الخطاب في الإذعان لأحاديث النبي وفتح مصر.
فتح مصر كان يستهدف فيما بعد أن يتحول أبنائها إلى جنود في الجيش الإسلامي، وهم خير جند الأرض، والجيش الإسلامي هو خير جيوش الأرض بكل تأكيد، لذلك كانت النتيجة التي ستخرج في النهاية مُذهلة بحق، وطبعًا بمرور الوقت أصبحت مصر دولة إسلامية وأصبح جنودها جزء من الجيش الإسلامي، والوصول إلى هذه النتيجة كان سببًا مُباشرًا من أسباب التفكير في فتحها منذ البداية.
تأمين ظهر المسلمين من الروم عن طريف فتح مصر
طبعًا قبل فتح مصر سنة 21 هجريًا كانت الدولة الإسلامية قد أحكمت سيطرتها على مناطق كثيرة في دولة الروم العريقة، والتي كانت تُعرف بالإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، وبالتأكيد جميعنا يعرف أن مصر كانت ضمن المناطق التي كانت تحت حكم الروم، وناهيكم عن المعاملة التي كان يتلقاها المصريون في أراضيهم فإن مصر كانت من وجهة نظر المسلمين خير تأمين لظهورهم من الروم، والذين كانوا للتو قد تقهقروا من الشام إلى مصر وأعلنوها عاصمة حكمهم، أو ما تبقى منها بمعنى أدق، فتقريبًا لم تعد هناك أي سُبل للتواجد في هذه المنطقة سوى من خلال مصر، ولذلك تجمعوا بها وبدأوا في الاستعداد مجددًا لاسترداد أراضيهم من المسلمين، ومن هنا بدأ التفكير الجدي في فتح مصر.
فكرة فتح مصر كانت تقوم في المقام الأول على منع الروم من الملاذ الأخير لهم، وفي نفس الوقت تأمين ظهر المسلمين في الشام التي سيطروا عليها وانتزعوها من مخلب الأسد، الرومان، ولهذا فإن المخاطرة بتأمين الشام كانت أقل بكثير من المخاطرة بفتح مصر وتأمين الشام للأبد من خلال غلق المنفذ الوحيد أمام الرومان، والحقيقة أن هذا الأمر قد نجح نجاحًا كبيرًا وبالفعل بعد فتح مصر لم تقم للروم أي قائمة بعد ذلك.
أهميتها الاقتصادية والسياسية
الخير في مصر لا حصر له، هذه مقولة يقولها الناس منذ مهد التاريخ وحتى الآن، فتقريبًا هذه البلد هي الوحيدة التي في كل شبر منها سبب من أسباب الخير، ففيها شريان الحياة نهر النيل، وفيها ثلثي آثار العالم، وفيها الكثير والكثير من الأشياء، والمشكلة أنه في هذه الفترة التي فكر فيها عمرو بن العاص في فتح مصر لم يكن المصريون هم من يحكمون قبضتهم على بلادهم ويستفيدون من خيراتهم، وإنما محتل غاشم أخذ منها الأخضر واليابس وتركها كالمرأة الثكلى، وهو وضع استفز كثيرًا بن العاص الذي كان يُسافر إلى هذه البلاد كثيرًا أيام الجاهلية من أجل التجارة، أي يُمكن القول أنه كان الأعلم بين العرب بما يدور داخل مصر وما يُمكن أن يحدث في حالة فتحها وضمها إلى الخلافة الإسلامية.
عمر بن العاص كان يُدرك أيضًا الخلافات السياسية الكبيرة بين القادة والمحتلين لهذه البلد، والتي لم تعد تحظى بأي اهتمام نظرًا لأن خيراتها قد سُلبت بأكملها، أو هكذا كانوا يظنون، كما أن الحروب الطاحنة التي دخلوا فيها مع المسلمين ببلاد الشام زادت من انشغالهم عن مصر بدرجةٍ كبيرة، لكل ذلك كان عمرو بن العاص يُدرك جيدًا أن الفرصة سانحة الآن أكثر من أي وقتٍ آخر، ولهذا نجح في النهاية بإقناع عمر بن الخطاب بالتحرك إلى أرض الفراعنة وفتحها.
إنقاذ المصريين من اضطهاد الرومانيين
على الرغم من أن مصر في هذا التوقيت من التاريخ كانت دولة قبطية تدين بالمسيحية، وعلى الرغم كذلك من كون الرومان يدينون تقريبًا بنفس الديانة، إلا أن الاضطهاد الديني في مصر كان حاضرًا في أبهى صورة ممكنة له، تلك الصورة التي تجعل أبناء الديانة المسيحية يقتلون بعضهم فقط من أجل اختلاف المذاهب، فقد كان الحُكام، وهم الرومان الأصليين، يعتبرون الطبيعة والمسيح شيء واحد يكون في النهاية المسيحية بالنسبة لهم، أما المصريون الأصليون فقد كانوا يعقوبين، ومن هذا الاختلاف وُلد تاريخ طويل وحافل من الاضطهاد، وكأن صرخات النجدة كانت تُطلق من داخل أرض الفراعنة ومهبط سيدنا موسى، ولهذا كان على الفتح الإسلامي ألا يتأخر أكثر من ذلك لإنهاء كل هذه المعاناة.
فتح مصر لم يأتي هكذا بين عشية وضحاها، فقد كان التجار العرب المسلمين يذهبون إلى مصر ثم يعيدون مُحملين بأخبار العذاب وصور الاستعباد التي كانت تتواجد داخل جدران هذه البلاد، لم تعد المسيحية تُطبق، لا على المسيحيين أو غير المسيحيين، حتى الكنائس بدأت تُهدم في بعض الأماكن بصعيد مصر، وطبعًا لم يكن هذا الأمر يستحل رضى الحكام المسلمين الذين أدركوا منذ وفاة النبي أن رسالته يجب أن تستمر، وأن السلام والأمن يجب أن يملأ العالم.
توسيع رقعة العالم الإسلامي أكثر
العالم الإسلامي بدأ على يد النبي صلى عليه وسلم منذ أن أرسى القواعد في المدينة المنورة بعد الهجرة من مكة، فمنذ ذلك التوقيت بدأ التفكير الحقيقي في التوسع أكثر ونشر الدين الإسلامي بكل مكان بالعالم، فرسالة الإسلام بكل تأكيد رسالة تستحق أن تُنشر على أوسع نطاق، والأقوياء فقط هم من يقدرون على إيصال رسالتهم على أكمل وجه، وقد كان هذا هو حال المسلمين في هذا التوقيت، حيث تمكنوا من هزيمة أعتى قوتين في العالم، الفرس والروم، وهم الذين يُمكن اعتبارهم الآن مثل الولايات المتحدة وأمريكا، عمومًا، من ضمن الأسباب التي أدت إلى التفكير في فتح مصر أن يتم نشر الدين الإسلامي في هذه البلد التي كانت تدين بأكملها للدين المسيحي المُحرف، فتقريبًا لم يكن هناك أي دين آخر هناك.
عندما دخل الجيش الإسلامي مصر، وكما يذكر تاريخ الأقباط نفسه، لم يقوموا بهدم كنيسة واحدة، وهذا ما يؤكد على احترام المسيحيين، ثم بدأت بعد ذلك الدعوة الإسلامية في الانتشار عن طريق التبشير الإسلامي الذي لم يكن يتم على حد السيف كما يقول البعض، فقد ثبت تاريخيًا أن الأديان التي اعتمدت على السيف والترهيب في نشرها لم تنتشر، أما مصر، فقد أصبح أكثر من نصف سكانها مسلمين خلال فترة قصيرة، وهي الآن تُعد أحد أهم أعمدة الإسلام في العالم الإسلامي، وهذا ما يؤكد نجاح هذا الفتح ونجاح الأسلوب الذي انتهجه الفاتحون باحترام الديانة المسيحية أولًا ثم الدعوة الإسلام ثانيًا.
إنهاء آخر أمل للروم في العودة
كما ذكرنا، كانت مصر تقع تحت حكم الروم منذ فترة طويلة، وبعيدًا عما حدث بها من ظلم فإن مصر كانت بالنسبة للروم شوكة قوية في ظهر العرب والشرق الأوسط وأفريقيا بأكملها نظرًا للموقع الجغرافي الممتاز الذي تأخذه، لذلك فمن البديهي تمامًا أن الروم عندما يُفكرون في إعادة تجميع قواهم والعودة مجددًا للانتقام من المسلمين مما حدث في الشام فإنهم سيُفكرون أولًا في مصر، حيث أنها الملاذ الأخير لهم وطريقهم للعودة، والحقيقة أنه لم يكن وقتها قد مضى الكثير على خسارة أراضي واسعة بالقرب من مصر، لذلك فمن الطبيعي تمامًا الزود عن هذه الأرض والدفاع عنها حتى النفس الأخير، وإلا فإن إمبراطورتيهم سوف تبدأ في الزول، وهذا ما فطن إليها المسلمون، ولذلك قرروا فتح مصر.
أمل الروم في العودة ومُحاربتهم من أجل استرداد كرامتهم المزعومة كان يُتوقع أن ينتج عنه حرب شديدة الخطورة لا تُضمن نتيجتها، ولهذا كان من المنطقي تمامًا أن يتم الدفع بالجيش الإسلامي نحو مصر وفتحها من أجل نحر ذلك الأمل، وهذا في الحقيقة أن دل المسلمين وقتها كانوا يمتلكون عقول حقيقية قادرة على التفكير السليم وحساب كل صغيرة وكبيرة، والسؤال الذي يطرح نفسه، أين نحن الآن من هذا النعيم الذي كان في يومٍ من الأيام حالنا الطبيعي!
دخول العرب إلى أرض وحضارة جديدة
من المعروف أن العرب ظلوا وقت طويل شبه مُنعزلين في شبه الجزيرة العربية، حتى عندما خرجوا توسعوا في مناطق قريبة منهم جدًا مثل سوريا وفلسطين والعراق، وكل مناطق الشام عمومًا، لكن كان هناك ركن من العالم لم يقوموا باكتشافه بعد، وهو ركن مصر، بلد النيل والفراعنة، والتي كان العرب يسمعون عنها في الجاهلية كلام كالسحر، لذلك فإنهم عندما وجدوا الفرصة سانحة بعد التوسع الكبير الذي حدث في عهد الخليفة عمر بن الخطاب، لم يُريدوا تضييع هذه الفرصة والتخاذل في الوقت الذي كانت فيه دولة الروم العظمى شبه منهارة، أو يُمكن القول أنها كانت كالأسد الجريح، عمومًا، فتح مصر جاء لأسباب كثيرة حاولنا أن نذكر منها الأبرز والأهم، ولابد أن أهل مصر يدينون الآن بالفضل لله ثم لهذه الأسباب التي جعلتهم الآن رقعة عربية مُسلمة، وطبعًا ليست هناك نعمة أعظم من الإسلام.