تحريم الغيبة والنميمة من التحريمات القطعية في الشريعة الإسلامية التي لا تخضع إلى تفسير أو تأويل أو اختلاف آراء فقهية، حيث ورد تحريمها صريحاً في العديد من النصوص القرآنية وكذلك ورد بأكثر من حديث من الأحاديث النبوية الشريفة المؤكدة، وهذا بالطبع أمر كاف للالتزام بهذا التحريم وتجنب السقوط في شرك ارتكاب هذا الفعل، لكنه في ذات الوقت لا يمنع من التساؤل حول سر هذا التحريم والحكمة منه.
أسباب تحريم الغيبة في الشريعة الإسلامية :
حدد علماء الدين من خلال اجتهاداتهم ودراستهم أوجه الحكمة من تحريم الغيبة وذلك استناداً إلى ما ينتج عن ممارسة هذا الفعل من سلبيات وما يتحقق عن الامتناع عنه من منافع عديدة، وفي مقدمتها الآتي:
الانشغال بمراقبة الناس :
قال العلماء أن أحد أسباب تحريم الغيبة والنميمة هو أنها تقود إلى رذيلة أخرى ألا وهي مراقبة الناس والانشغال بأخبارهم وأحوالهم، الأمر الذي قد يؤدي إلى إضعاف النفوس ويملأ القلوب بالسواد ويدفع الإنسان إلى الحسد.
استناداً إلى ذلك يرى البعض أن في تحريم الغيبة منفعة مباشرة تعود على الإنسان، حيث أن هذا التحريم يُحثه على الانشغال بذاته والعمل على تطويرها والارتقاء بها على مختلف الأصعدة، والأمر هنا ليس من المنظور الديني فقط بل أن خبراء التنمية البشرية أيضاً يؤكدون أن انشغال الفرد بأحوال غيره يُبعده عن وجهته ويعد أحد أسباب الفشل في تحقيق الأهداف الشخصية والعملية.
قد تؤدي إلى ظلم الآخرين :
فوق كل ذي علم عليم وسبحانه وحده هو الأعلم بكافة الأمور ما ظهر منها وما بطن، ومن ثم فإن البشر -ذوي القدرات المحدودة- لا تتسنى لهم رؤية الحقيقة جلية كاملة، وقد حدثنا المولى -عز وجل- عن ذلك في مواضع كثيرة في كتابه العزيز أبرزها قصة كليم الله موسى عليه السلام مع سيدنا الخضر والتي تبين منها أن نبي الله كان علمه محدوداً ببعض الأمر ولهذا لم يستطع تفسيرها على الوجه الصحيح، بالإضافة إلى أن فعل النميمة عادة ما ينطوي على العديد من الأفعال الأخرى المُحرمة مثل السخرية من الآخرين والتحقير من شأنهم وكلها أمور مُحرمة بمحكم نصوص القرآن وما ورد بأحاديث الرسول الأمي عليه الصلاة والسلام.
يتبين من هذا أن في تحريم الغيبة منفعة عظيمة وهي منع ظلم الغير بسبب الجهل بالحقائق، حيث أن من الممكن أن يرى أحد الأشخاص أمراً فيُفسره بشكل ما -قد يكون خاطئاً- ومن ثم يُخبر به الناس تبعاً لوجهة نظره مما يدفعهم لتكوين صورة مغلوطة عن ذلك الشخص، ويُعد هذا أحد الأسباب الرئيسية لتجريم الإسلام لهذا الفعل.
تغذي مشاعر الحقد والغل :
لنتساءل ما الأمر الذي يدفع الناس لاغتياب بعضهم البعض والخوض في سيرتهم وأسرارهم مع الغرباء؟، لن نجد إجابة سوى مشاعر الحقد والغل التي يضمرونها إليهم، ومن ثم اعتبر بعض العلماء حماية القلب من الأسوداد بفعل تنامي هذه المشاعر الذميمة كان أحد أسباب تحريم الغيبة في أحكام الشريعة الإسلامية، حيث أن التمادي في هذا الفعل يساعد على فرض تلك المشاعر سيطرتها التامة والكاملة على قلب الإنسان والتي تحفز مشاعر الكراهية والبغض والتي تعد أوسع الأبواب التي يتسلل منها الشيطان إلى نفوس البشر ومن ثم إضلالهم عن طريق الواحد الأحد.
إلهاء للناس :
يتم وصف فعل الغيبة والنميمة بأنه فاكهة مُحرمة أي أن الناس يتفكهون به ويجدون فيه الكثير من السعادة والمتعة، مما يعني أن استسلام البعض لرغباتهم في ارتكاب هذا الفعل يحوله إلى عادة يصعب التخلص منها مع الوقت، ويُصبح الخوض في سيرة الناس وأعراضهم وشؤونهم الخاصة هواية يُمارسها الإنسان بشكل لا شعوري، وبالتالي تتعاظم الآثار السلبية الناجمة عنها وتصيب نارها عدد أكبر من الأشخاص، علاوة أنها تكون إلهاءً بالنسبة لمن يمارس الفعل نفسه وتصده عن ذكر الله وترجعه عن سبيله وإن حدث هذا فبالتأكيد لن يجني سوى الدمار والخراب في كافة مناحي حياته.
الحسد ونكران النعمة :
تحريم الغيبة في الشريعة الإسلامية يرجع بالعديد من الفوائد على الفرد نفسه قبل الآخرين، حيث أن الامتناع عن ارتكاب هذا الفعل المُحرّم يقي النفس البشرية من السقوط في فخاخ العديد من الأوزار الأخرى المترتبة عليها، فيُمكن القول بأن كل مُغتاب مهتم بدرجة كبيرة بمراقبة أحوال غيره، وكل مهتم بمراقبة الغير تتنامى بداخله مشاعر الحقد والحسد، حيث أنه يلتفت على الدوام إلى النعم المتوفرة لدى غيره بينما يُصرف نظره عن النعم التي أنعم بها المولى عز وجل عليه.
لا يمكن إيجاد مُغاتب قانعاً بحاله أو راضياً عنها ويعتبر علماء النفس أن هذا رد فعلي طبيعي ومنطقي للسلوك الذي يتبعه والذي يحفز مشاعر إنكار النعم وعدم القناعة بما لديه، كما أن الأشخاص من هذا النوع ينكرون العديد من القيم مثل الاجتهاد والمثابرة والسعي ويرجعون السبب في الفوارق بينهم وبين الآخرين إلى بعض الأمور الواهية مثل الحظ وغيره، وشخص مثل هذا من المستبعد أن يتمكن من إحراز أي تقدم من أي نوع في حياته الشخصية أو المهنية.
نشر الإشاعات وتفكيك الروابط :
حين يرتكب أحدهم فعل الغيبة والنميمة فهو يُدرك تماماً أن الأمر لن يتوقف عند حد الشخص الذي يتحدث إليه مباشرة، بل من الوارد جداً أن يخبر الآخر آخرين ومن ثم يشوع الأمر -الذي قد يكون مغلوطاً- وبالتالي يكون درء الشائعات وإماتة الباطل أحد مظاهر الحكمة من تحريم الغيبة في الشريعة الإسلامية، حيث أن تلك الشائعات تعمل على بث روح الكراهية بين البشر وتعمل على تفكيك الروابط بين الأفراد وهو ما قد يؤدي إلى انهيار مجتمعات كاملة وتدمير الأوصال بين أفرادها.
يشار هنا إلى أن أغلب حالات الطلاق على سبيل المثال كان أحد أسبابها المباشرة -وفقاً للدراسات- تدخل الغرباء في العلاقة بين الزوجين وكشف أسرارهم وتناقلها، حيث أن شيوع تلك الأمور يقلص فرص الصُلح بين المتخاصمين أيا كانت طبيعة العلاقة بينهم، ويتبين من هذا حكمة الإسلام من تحريم النميمة حتى لو كانت بالحق.
حب الدنيا والتعلق بالأمور الزائلة :
يؤكد علماء الدين والفقهاء على أن ميل الأشخاص إلى ارتكاب أفعال النميمة والغيبة هو دليل على تعلق قلوبهم بمتاع الدنيا وانشغالهم بها وتشبثهم بحطامها الزائل، وفي المقابل يقل اهتمامهم بالنواحي الدينية والروحانية ويضعف إيمانهم، وقد حدد الفضيل بن عياض في أحد أقواله أوصاف الشخص المُحب للدنيا والساعي إلى الرياسة والجاه وكان من بينها “البغي وتتبع عورات الناس”، مما يمكن معه القول بأن تحريم الغيبة جاء لتنقية النفس من تلك المشاعر والحفاظ على القلوب عامرة بالإيمان غير متعلقة إلا بإرضاء الخالق عز وجل والالتزام بطريق النجاة في الحياة والدنيا والآخرة.
خاتمة :
تحريم الغيبة والنميمة -وما يُماثلهما من أفعال- في أحكام الشريعة الإسلامية يعود بالنفع على الفرد والمجتمع على السواء، وجاء لتنقية النفوس من براثن الحقد والغل والحسد والقضاء على تعلق القلوب بكنوز الدنيا الزائلة وانشغال العقول بالأمور الواهية التي تصد عن سبيل الله، وأن هذا لا يتعارض مع مشاعر الطموح والسعي إلى تطوير الذات بل أنها تقود إليه من خلال حث الفرد على الاهتمام بذاته وعدم الانشغال عنها بالالتفات إلى شؤون الغير.