يعد سعد زغلول أحد أبرز وأشهر الزعماء في تاريخ الأمة المصرية، حيث تخبرنا دراسة التاريخ بحجم مجهوداته في سبيل استقلال بلاده وخلاصها من سطوة المستعمر البريطاني، وكذا تخبرنا بالثمن الذي دفعه مقابل مواقفه الوطنية الجليلة، وأبرزها نفيه مرتين إلى خارج مصر هو ورفاقه من زعماء الأمة آنذاك. هناك العديد من الأقوال الشهيرة لمؤسس الوفد المصري التي توارثها الشعب جيلاً بعد جيل، ولعل من أشهر أقوال سعد زغلول وأكثرها إثارة للجدل هي مقولة “مافيش فايدة”، والتي تحولت في العصر الحالي إلى ما يُشبه المثل الشعبي الذي يُستدل به على اليأس والتخبط وصف أية أوضاع مُتردية.. فهل قال سعد زغلول حقاً تلك المقولة المنسوبة إليه؟، وترى لماذا قالها؟، لكن إجابة هذه الأسئلة لا يمكن التحقق منها إلا باستعراض القصة كاملة.
أسباب مقولة سعد زغلول الشهيرة :
رغم مُضي أكثر من تسعين عاماً على وفاة زعيم الأمة سعد زغلول ومُضي أكثر من ستين عاماً على جلاء الإنجليز عن مصر لا تزال مقولة “مافيش فايدة” المنسوبة إليه تثير الكثير من الجدل، وهناك من المؤرخين من يُثبتها وهناك أيضاً من يُنكرها.. فأين الحقيقة، ولماذا ومتى قالها الزعيم الراحل؟
متى قيلت ولمن ؟
قبل التطرق إلى ما ورد على لسان المؤرخين حول مقولة “مافيش فايدة” علينا أولاً التعرف على الملابسات المحيطة بها، وأهمها التوقيت الذي قيلت به والشخص الذي كانت موجهة إليه، وحسب العديد من المصادر التاريخية فإن الزعيم سعد زغلول قد قال مقولته الأشهر قبل وفاته بفترة قصيرة جداً وتحديداً في الدقائق الأخيرة من حياته، أما الشخص الذي كانت موجهة إليه فهو قرينته السيدة صفية زغلول المتوفية في 1946.
رغم أن تلك العبارة قيلت في مناسبة بالغة الخصوصية وكانت صادرة من رجل إلى زوجته إلا أنها سرعان ما انتشرت بسرعة رهيبة بين أبناء الشعب المصري في ذلك الوقت، وأدت إلى إثارة جدل واسع في خلال السنوات التالية.
هل كان يائساً من القضية الوطنية؟
حين قال سعد زغلول “مافيش فايدة” لم يُلحق قوله بأي توضيح أو تفسير على ما يُقصده منها مما فتح الباب أمام التأويل والتنظير على مصرعيه، ولأن الزعيم الراحل لم يهتم يوماً بأمر أكثر من اهتمامه بالقضية الوطنية وحصول مصر على الاستقلال؛ رأى البعض أنه قد قصد بمقولته الشهيرة الإشارة إلى الوضع السائد في مصر آنذاك.
أنصار هذا الرأي يرون أن سعد زغلول في ساعاته الأخيرة قد استشعر اليأس وردد المقولة تحسراً على أوضاع بلاده المغتصبة من قبل قوات الاحتلال، لكن هؤلاء يُرد عليهم بأن الزعيم الراحل قد شهد خلال حياته الكثير من الويلات والمصاعب وكان دائم التماسك وشديد الإيمان بالقضية الوطنية وبأن الاستقلال آتٍ ولو بعد حين، ومن ثم يُستبعد أن يكون هذا مقصده من الجملة.
هل كان يائساً من الحياة؟
الرأي الأقرب إلى الصواب هو أن سعد زغلول في ساعاته الأخيرة كان مستشعراً بدنو أجله، وبالتالي فإنه حين ردد الجملة كان يقصد بها أن لا فائدة من التمادي في محاولات الشفاء من المرض الذي ألم به، خاصة أن السيدة صفية زغلول قد قالت في وقت لاحق أنه حين نطق بتلك العبارة كانت تهم بتقديم الدواء له.
كان أول من روى تلك القصة بتفاصيلها الكاتب الصحفي حافظ محمود -أحد مؤسسي نقابة الصحفيين المصرية- وأثار القضية على صفحات جريدة السياسة الأسبوعية في 1937م محاولاً تصويب الفهم الخاطئ للمقولة، وقد استشهد في مقاله بالسيدة صفية زغلول التي أيدت رواية حافظ محمود وأكدت أن الزعيم كان أكثر المصريين إيماناً بحق مصر في الاستقلال عن الامبراطورية البريطانية وبأن الغُمة وإن طالت فإنها في النهاية إلى زوال ولم يعرف اليأس يوماً، وإنما قصد بقوله هذا الإشارة إلى عجز العقاقير عن مداواة مرضه الذي كان قد بلغ أشده في ذلك الوقت.
لماذا اكتسبت المقولة تلك الشهرة؟!
حين ننظر إلى المقولة نفسها “مافيش فايدة” سوف نجد أنها قولاً عادياً وتقليدياً، بل أنها تعبيراً عامياً يستخدمه المصريين يومياً آلاف المرات في حواراتهم المختلفة. أي أن المقولة تفتقد إلى المقومات التي تجعلها ذات أهمية مثل أقوال سعد زغلول المأثورة الأخرى التي قالها في مناسبات مختلفة ومنها:
- الحق فوق القوة
- الإرادة متى تمكنت من النفوس ذللت كل الصعاب ومحت كل عقبة وقهرت كل مانع
- الرجل بصراحته في القول وإخلاصه في العمل
- لسنا أوصياء على الأمة بل وكلاء عنها ولكن وكلاء أمناء
“مافيش فايدة” يبدو قولاً عديم القيمة ليس رناناً مثل الأقوال الأخرى المذكورة، ومن ثم يمكن القول بأن تلك الجُملة قد اكتسبت شهرتها وأهميتها من صاحبها، بمعنى أن الملايين يقولون “مافيش فايدة” لكن حين يكون قائلها هو الزعيم سعد زغلول فالأمر يختلف، حيث كان هذا الزعيم هو مبعث الأمل في نفوس المصريين الثائرين، وبالتالي حين تم تناقل العبارة المنسوبة إليه دون الإشارة المناسبة التي قيلت بها أصيب معظمهم بحالة من الصدمة، وهو ما ساهم في انتشارها بصورة أكبر وترسيخها في العقول وتوارث الأجيال لها وأثير حولها كل ذلك الجدل.. المقولة كانت عادية لكنها صدرت عن شخص فريد ولهذا استحقت التوقف عندها وتأملها ملياً.
هل روج المحتل المفهوم المغلوط؟
هناك نظرية ثالثة -تبدو منطقية- تقول أن المستعمر البريطاني استعان بعملائه من الخونة والمأجورين لإشاعة هذا المفهوم الخاطئ للمقولة بين عامة الشعب، فقد كان المُحتل مدركاً لحقيقة أن سعد زغلول ليس زعيماً وطنياً إنما هو رمز المقاومة ومثل أعلى لكل مصري شريف مؤمن بقضية بلده، فإذا استطاع زعزعة ثقتهم وكسر ذلك الرمز في نظرهم سوف يكون قد أحرز بذلك انتصاراً ساحقاً على المقاومة المصرية.
لا يوجد دليل تاريخي قاطع على تلك النظرية إلا أنها تبقى احتمالاً قائماً، يُزيد من منطقيتها أنها لا تقول أن المستعمر كان السبب وراء انتشار هذا المفهوم، ولكنه فقط عمل على ترويجه وترسيخه في العقول حين رأى ذلك يصب في مصلحته ويساعد على نشر اليأس والإحباط بين أبناء الشعب المصري.
خاتمة :
في الختام لا يسعنا القول إلا بأن سعد زغلول رمزاً وطنياً جليلاً عاش حياته بأكملها مناضلاً في سبيل رفعة وطنه مدافعاً عن حقه في الاستقلال وحق شعبه في تحديد مصيره، وكلما كان يُسد أمامه طريقاً كان يبحث عن آخر لتحقيق هدفه الأسمى، وهو ما يُجيب على تساؤل لماذا يعتبر الكثيرون سعد زغلول زعيماً للأمة المصرية ؟. رجل مثل هذا لا يعترف بالعجز ولا يعرف اليأس طريقاً إلى قلبه، ومقولته الشهيرة لا تتعدى كونها قولاً عادياً صدر عن مريض يحتضر أراد بها التهوين عن زوجته حين استشعر اقتراب الأجل ومنها من التعلق بالأوهام.
سعد زغلول وُلِد في 1857 في محافظة كفر الشيخ وتوفي في 1927، وتولى العديد من المناصب الرسمية أبرزها رئاسة الوزراء ورئاسة مجلس الأمة، ومن أبرز إسهاماته قيامه بجمع توكيلات الشعب وتأليف الوفد المصري لعرض قضية مصر في مؤتمر الصلح في باريس كما أنه قائد ثورة 1919م.