يشكل انتشار الأوبئة التهديد الأكبر على مستقبل الجنس البشري، حيث أن دراسة التاريخ تخبرنا بأن أمماً كاملة قد اختفت نتيجة فيروس لا يُرى بالعين المجردة، وقد يعتقد البعض أن التطور الطبي والتقني الذي يشهده عالمنا اليوم يجعلنا أبعد ما يكون عن تكرار تلك الظاهرة، إلا أن بعض العلماء كان رأيهم صادماً إذ رأوا أن ذلك التطور نفسه قد يكون أحد مسببات انتشار الأوبئة في المستقبل!
العوامل المساعدة على انتشار الأوبئة :
حدد العلماء مجموعة من العوامل والمسببات التي تؤدي إلى انتشار الأوبئة وتزيد من احتمالات حدوثها مستقبلاً، ومن أبرز تلك العوامل ما يلي:
التغيرات المناخية :
أثبتت عِدة دراسات علمية أن التغيرات المناخية ذات تأثير مباشر وبالغ على كوكب الأرض والكائنات التي تعيش فوقه بما فيها الإنسان، حيث كانت تلك التغيرات سبباً مباشراً في ظاهرة الانقراض واندثار العديد من الكائنات الحية مثل الديناصورات وغيرها، أما في الوقت الحالي فالتغيرات المناخية وفقاً لما يؤكده العلماء تأتي في مرتبة متقدمة ضمن مجموعة العوامل المسببة لـ انتشار الأوبئة المختلفة.
يرى العلماء أن تزايد معدلات الكوارث البيئية يهدد حياة البشر ومختلف الكائنات الحية من خلال انتشار الأوبئة ،حيث أن تلك التغيرات تساهم في خلق بيئات مثالية لنمو الممرضات على اختلاف أنواعها، مثل وباء الكوليرا الذي ينتقل بواسطة الماء، وكذلك قد تؤدي تلك التغيرات إلى انتشار بعض الحشرات الناقلة للأمراض وما يماثله وينتج عن ذلك تفشي و انتشار الأوبئة على مساحات واسعة.
انتشار التلوث :
نصت مختلف مناهج التعليم على أن التلوث هو مصدر التهديد الأول لاستمرار الحياة على سطح الأرض، ولعل البعض اعتقد أن تلك الأقاويل تتسم بقدر من المبالغة في تقدير النتائج أو أنها مجرد شعارات، لكن الحقيقة التي تم إثباتها علمياً أن التلوث البيئي يشكل خطراً لا يجب الاستهانة به ويعد من المسببات انتشار الأوبئة الرئيسية.
يؤدي التلوث إلى انتشار الأوبئة بصورة مباشرة وغير مباشرة وكذلك يحقق ذلك على المدى القريب والبعيد تبعاً لنوع التلوث ومدى انتشاره، فعلى سبيل المثال البيئات غير النظيفة وتراكم القمامة يؤدي إلى انتشار مجموعات الحشرات الناقلة للأمراض مثل البعوض وما يماثله، كذلك كانت الثورة الصناعية سبباً في انتشار التلوث نتيجة عمل بعض المنشآت على تصريف مخلفاتها في البحار والأنهار، بالإضافة إلى ما نتج عن تلك الثورة من خلل بيئي متمثلاً في مجموعة من الظواهر الكارثية مثل الاحتباس الحراري أو حدوث ثقب الأوزون وجميعها أمور أثرت على استقرار البيئة وشكلت محيطاً مثالياً لانتشار الفيروسات ومن ثم تفشي الأوبئة، وقد رصدت العديد من الدراسات أن الأشخاص المقيمين بالقرب من الأماكن الصناعية كانوا أكثر عرضة لعدد كبير من الأمراض مقارنة بغيرهم.
تردي مستوى الخدمات الطبية :
أظهرت العديد من الدراسات أن دول العالم الثالث وخاصة الدول الواقعة في نطاقه قارة إفريقيا -القارة السمراء- أكثر عرضة لـ انتشار الأوبئة مقارنة بمجموعة دول العالم الأول أي الدول الكبرى المتقدمة، والسر في ذلك لا يرجع لأسباب بيئية إنما يرد إلى تدهور المنظومة الصحية في النسبة الأكبر من تلك البلاد وافتقارها إلى الكوادر الطبية والأساليب العلاجية الحديثة، الأمر الذي يقلل من فرص تمكن المعنيين بالشؤون الصحية بتلك البلاد من السيطرة على أي أمراض معدية قد تظهر بها وبالتالي يساعد ذلك على انتشارها بصورة أكبر خلال فترة زمنية أقل.
النمو الحضري والسكاني :
ينظر الكثير إلى النمو الحضري والسكاني في مختلف دول العالم على أنه عاملاً إيجابياً يعكس تطور الدولة وتحضرها، إلا أن بعض العلماء كان لديهم رأياً آخر؛ حيث أكدت نتائج الدراسات التي قاموا بها أن تزايد المجتمعات العمرانية الحديثة حول العالم يزيد من فرص انتشار الأوبئة بنسبة كبيرة، واستشهدوا على ذلك بتفشي الأوبئة بنسب أكبر داخل المدن مرتفعة الكثافة السكانية والتي يقدر عدد سكانها بملايين البشر.
كانت حياة الأجداد أكثر استقراراً وأقل عرضة للأوبئة والأمراض والسر في ذلك -حسب ما يؤكده بعض العلماء- أنهم عاشوا في أحضان الطبيعة، وشهدوا حياة قبلية أو ريفية بسيطة وتجمعاتهم السكانية كانت منخفضة العدد بنسبة كبيرة، أما اليوم بعد ظهور المدن العملاقة وتضاعف معدلات السكان داخل نطاق جغرافي ضيق تزايدت معدلات انتشار الأوبئة نتيجة زيادة معدلات التفاعل بين البشر وتكدسها بالسكان وتلك الظواهر تتعارض بشكل قاطع مع مقومات البيئات الصحية وتهدد سلامة المقيمين بها، وربما لذلك يلاحظ البعض أن الأشخاص المقيمون في الضواحي والمناطق الريفية يمتازون بصحة أفضل من سكان المدن والعواصم المزدحمة.
الحروب وخاصة الحروب الأهلية :
أسباب الحروب متعددة ونتائجها السلبية أكثر تعدداً وفي مقدمتها مساهمتها المباشرة في تفشي الأمراض، وقد سجلت العديد من حالات انتشار الأوبئة داخل النطاقات الجغرافية التي شهدت حرباً أو أكثر، والسر في ذلك يعود إلى ما تخلفه تلك الحروب من دمار وتلوث بالإضافة إلى سوء خدمات النظافة وصعوبة توفير الخدمات الصحية المناسبة في ظل تلك الاضطرابات.
يرى العلماء أن الحروب الأهلية أشد خطراً من الحروب العسكرية بين الجيوش النظامية، حيث أن النوع الثاني -أي الحروب الدولية- عادة ما تقع على الحدود السياسية الفاصلة بين الدول المختلفة، وهي غالباً ما تكون مناطق معزولة وقاحلة، بينما الحروب الأهلية تدور داخل المدن ومناطق التجمعات السكانية مما يضاعف حجم الكارثة حال وقوعها.
الهجرة والسياحة العالمية :
عند الحديث عن انتشار الأوبئة تجدر بنا الإشارة إلى أن الأمر دائماً يبدأ بشخص واحد مصاب، ومن خلاله ينتقل الفيروس إلى عشرة أشخاص وينتقل منهم إلى مائة ومن المائة إلى ألف.. إلخ، وفي النهاية يفقد الملايين أرواحهم نتيجة تفشي ذلك الداء المستعصي، وبناء على ذلك يمكن القول بأن السفر الدولي أحد العوامل التي تزيد من احتمالات تفشي الأوبئة في المجتمعات الحضرية، حيث أن ذلك يزيد من فرص انتقال الأمراض من منطقة جغرافية إلى أخرى، وقد توقعت بعض الدراسات أن تزداد الأوبئة خلال السنوات القليلة القادمة نتيجة ارتفاع عدد السياح الدوليين الذي بلغ نحو 1.2 مليار حسب إحصائية عام 2015.
التعدي على البيئات الطبيعية :
تزايدت نسبة السكان في مختلف بقاع الأرض خلال العقود الماضية وفقاً لما رصدته العديد من الإحصاءات، ونتيجة لذلك تكونت ظاهرة الانفجار السكاني وأصبحت المدن الكبرى حول العالم تعج بملايين البشر، وفي محاولة للحد من تلك المشكلة لجأت الكثير من الحكومات إلى توسعة النطاق العمراني في بلادها من خلال إنشاء مدن سكنية جديدة على مساحات أكبر تكون قادرة على استيعاب تلك الزيادة السكانية، ولعل أغلب الحكومات لم تفطن إلى أنها تعالج مشكلة بمشكلة أكبر.
أدرج العلماء التعدي على البيئات الجديدة وإقامة المدن السكانية في مناطق لم تكن مأهولة في السابق ضمن العوامل المؤدية إلى انتشار الأوبئة ؛السر في ذلك يرجع إلى أن تلك المناطق البرية مثل الغابات تعد موطناً أصلياً لعدد كبير من الحيوانات والحشرات، ومن المعلوم أن تلك الكائنات الحية ناقلة للأمراض، ومن ثم فإن إقامة مجتمعات سكانية في تلك المناطق يزيد من فرص انتشار الفيروسات التي تنتقل من الحيوانات إلى الإنسان وبالتالي يزيد من احتمالات ظهور وانتشار الأوبئة