مهاتما غاندي واسمه الحقيقي موهانداس كرمشاند غاندي، هو أحد أبرز السياسيين في تاريخ دولة الهند، بل إن مهاتما غاندي بالنسبة للشعب الهندي ليس مجرد سياسي، بل هو أب روحي والزعيم الذي قاد حركة استقلال الهند وقاوم الاستبداد بها، ولكن مهاتما غاندي لا يشكل رمزاً بالنسبة لابناء الشعب الهندي وحدهم، بل إن من القلائل الذين نالوا شهرة عالمية، ولم يعد يذكر اسم مهاتما غاندي في أي بقعة من بقاع الأرض، إلا يعقب ذكره سيل من الثناء والإشادة وامتداح سيرته وإسهاماته، كما إن غاندي يعتبر الشخصية الأكثر إلهاماً للحركات الداعية للحرية وجمعيات الحقوق المدنية، وهو يحمل العديد من الألقاب الدالة على مكانته وقدره لدى الشعوب، فهو في الهند يسبق اسمه لقب أبو الهند، بجانب لقبه الأشهر على الإطلاق “مهاتما” والذي يُعني الروح العظيمة.
مهاتما غاندي .. لماذا ألهمت سيرته الكثيرين ؟
كل ما سبق ذكره عن مهاتما غاندي يضعنا أمام سؤال واحد مُحير.. ما سر تلك المكانة العظيمة التي يحظى بها مهاتما غاندي ؟، ولماذا يعد ملهماً للحقوقيين والداعين إلى الحرية والمساواة؟.. وإجابة هذا السؤال لا يمكن أن تتم دون استعراض سيرته وتاريخه، ورصد إسهاماته في سبيل وطنه التي نال عنها ذلك التشريف.
كتب وآراء شكلت شخصية غاندي :
مهاتما غاندي وُلِد في الثاني من أكتوبر عام 1869م في ولاية بوريندر الهندية، وكانت ينتمي إلى عائلة عريقة لها باع بمجال العمل السياسي، وكانت طفولة مهاتما غاندي تقليدية ونمطية، فلم تصبه عدوانية الأطفال أو روعنتهم المُعتادة، بل كان هادئ الطباع ومسالم، هواية القراءة كانت هي أفضل الهوايات بالنسبة له، كان نهماً للعلم شغوفاً بالمعرفة، فقرأ في مختلف المجالات وتعرف على مختلف الثقافات، وهذه القراءات ساهمت بنسبة كبيرة في تشكيل عقلية وشخصية مهاتما غاندي ،ويقول غاندي إنه تأثر كثيراً بأفكار الروسي تولستوي، وبخاصة كتابه الصادر بعنوان “الخلاص من أنفسكم”، وكذلك تأثر بأفكار الكاتب الأمريكي هنري ديفيد ثورو، والتي احتواها كتابه الأشهر الذي صدر باسم “العصيان المدني”.
فلسفته الخاصة :
عاني مهاتما غاندي معاناة كافة الهنود من التمييز والعنصرية واضطهاد الاحتلال البريطاني، الفارق بينه وبينهم إنه لم يرضح أو يستسلم للأمر الواقع، بل أراد الدفاع عن حقه وحريته ومكافحة المُحتل وطرده خارج وطنه، وقد أكد له الكثيرون إن ذلك كي يتحقق فلابد من الاتجاه إلى الكفاح المُسلح، لكن مهاتما غاندي لم يكن ينتمي لهذا النمط الفكري، المتسم بالدموية والعنف والذي لا يُنتج سوى فوضى، فقام بتأسيس فلسفة اللاعنف أو ما يعرف في عالم السياسة بمسمى المقاومة السلمية، وهي مجموعة من القواعد أو المبادئ، التي جاءت مستندة إلى أسس دينية واقتصادية وسياسية، تهدف إلى مقاومة العدو أو المحتل بوسائل وطرق سلمية دون اللجوء إلى السلاح، ولم يكن مهاتما غاندي رافضاً تماماً لمبدأ استخدام السلاح، لكنه جعل منه حل أخير لا يستعان به إلا إذا فرضته الضرورة، وبات القتال هو الوسيلة الوحيدة لتحقيق النصر والغاية.
أساليب تطبيق فلسفة اللا عنف :
فلسفة اللا عنف أو المقاومة السلمية التي أقرها وعمل بها مهاتما غاندي ،لم تكن مجرد مجموعة من الشعارات أو المبادئ الصماء، بل إنه قام بتحديد مجموعة الآليات، أو الطرق التي يمكنها تطبيق هذه الأفكار الفلسفية على أرض الواقع، وإحداث تأثير يفوق تأثير الصدام المُسلح مع العدو، وربما يفوقه في بعض الأحيان، ومن بين تلك الوسائل التي يمكن من خلالها تطبيق فلسفة اللا عنف، هو التعبير عن رفض السياسات أو القوانين، عن طريق الإضراب عن الطعام أو مقاطعة الفاعليات أو الاعتصام السلمي أو إعلان العصيان المدني العام.
وقال مهاتما غاندي إن اتباع هذه الأساليب في الدفاع عن الحقوق، لا يمكن -بأي حال- اعتبارها جبناً، بل هي حيلة للاحتجاج وممارسة الضغوط وكسب تعاطف ودعم أكبر عدد ممكن، وعلى القائم بالإضراب أو الاعتصام أن يكون مستعداً للموت، والتضخية بنفسه في سبيل نصرة القضية التي آمن بها ويدافع عنها.
مكافحة العنصرية في جنوب إفريقيا :
سافر مهاتما غاندي إلى قارة إفريقيا في 1893م، وعلى وجه التحديد فقد انتقل إلى جنوب إفريقيا، التي كانت تعاني مما تعانيه الهند إذ إنها هي الأخرى مستعمرة بريطانية، ولكن الأسوأ من ذلك هو ما كانت تمارسه الحكومة من عدوان وتمييز عنصري، فحكومة البيض كانت تضطهد الآسيويين والزنوج وتنكل بهم، ورغم إن مهاتما غاندي ما كان ينوي البقاء إلا لعام واحد خارج الهند، لكنه حين رأى الأوضاع وأحوال المستضعفين هناك، قرر البقاء وتولي دور القائد لهم في رحلة البحث عن حقوقهم، وكان أول من أعلنوا رفضهم لسياسيات هذه الحكومة تجاه الأسيويين والأفارقة.
وتمكن مهاتما غاندي ورفاقه من إحداث تأثير كبير في فترة وجيزة، وحققوا العديد من النجاحات وخطوا عِدة خطوات على طريق تحقيق المساواة، أو بمعنى أدق تحسين حالة الفئات المنبوذة من قبل الجنس الأبيض، وأبرز ما حققه مهاتما غاندي في جنوب إفريقيا، هو إعادته الثقة لنفوس الفئات المضطهدة عرقياً، كما أجبر الإدارة البريطانية على التراجع عن قرارها بتحديد الهجرة الهندية إلى إفريقيا، ومحاربة القانون الانتخابي الذي لا يسمح لابناء الهند والزنوج بالتصويت.. وهذا كله قد تمكن غاندي من تحقيقه باتباعه سياسة اللاعنف وسبل المقاومة السلمية.
زعامة الهند :
قضي مهاتما غاندي فترة طويلة يدافع عن حقوق العمال بجنوب إفريقيا، بغض النظر عن جنسياتهم أو عقائدهم الدينية، فالعمال الزنوج المسيحيون والآسيويين مختلفي العقائد والمسلمين المنحدرون من الدول العربية، جميعهم كانوا يعانون من ظلم الحكومة وقوات الاحتلال، وبعد سنوات من النضال ضد التمييز والتفرقة العنصرية، قرر مهاتما غاندي مواصلة نضاله ولكن على أرض وطنه الهند، فعاد إليها في عام 1915م، وبفضل عمله الوطني تمكن خلال سنوات قليلة من التحول من مجرد منضال إلى رمز وقدوة، وصار مهاتما غاندي بالنسبة لشعب الهندي زعيماً، وصار يتمتع بشعبية طاغية خاصة وسط العمال والفلاحين وكافة الفئات المُهمشة والمضطهدة.
موقفه من الاحتلال البريطاني :
كان مهاتما غاندي سياسي بارع، وهذا يبين بوضوح من مواقفه تجاه الاحتلال البريطاني، وأسلوب تعامله مع قادته، فرغم إن موقف مهاتما غاندي من الاحتلال كان واضحاً جلياً، إلا أن مواقفه تجاهه كانت متفاوتة ما بين الصلابة التامة أو اللين، فأحياناً يتخذ موقفاً معادياً تجاه القوانين التي يُصدرها الاحتلال، وفي أحيان أخرى يلجأ إلى التفاوض وإجراء بعض التسويات، إلى أن جاءته الفرصة في 1932م، فطالب بالاستقلال الهندي التام عن الإدارة البريطانية، وقاد حركة عصيان مدني شامل بكافة أرجاء البلاد، مما تسبب في إلقاء القبض عليه وإيداعه السجن لست سنوات، لكنهم أفرجوا عنه بعد عامين فقط خوفاً من تصاعد حِدة الغضب الشعبي.
مسيرة الملح :
في عام 1931م أعلن مهاتما غاندي رفضه لسيطرة قوات الاحتلال على ثروات البلاد، ورفض احتكارهم لعمليات استخراج الملح من البحر، فقاد مسيرة شعبية اشتهرت باسم “مسيرة الملح”، وتوجه بهم إلى البحر لاستخراج الملح منه بأنفسهم ولصالح بلادهم، وهذا وضع قوات الاحتلال في مأزق، فاضطرت إلى التفاوض مع مهاتما غاندي والتوصل إلى حل وسط، فتم توقيع معاهدة غاندي إيروين التي قضت بحق الشعب الهندي في ثرواته، وباتت الإدارة الهندية تحصل على نسبة كبيرة من أرباح استخراج الملح وتجارته.
اغتيال مهاتما غاندي :
بفضل مهاتما غاندي والعديد من الأبطال والمناضلين حصلت الهند على استقلالها، ولكن الفرحة بذلك النصر لم تكتمل، إذ تعالت في ذات الوقت بعض الأصوات الداعية للانفصال، وبذل مهاتما غاندي قصارى جهده للحفاظ على وحدة الهند، لكن جهوده هذه باءت بالفشل، ووقع الانفصال بالفعل في أغسطس من عام 1947م، فأصاب مهاتما غاندي الهم والغم وساءت صحته وهو يشاهد الهند تتفكك، لكنه لم يتوقف عن المناداة بضرورة إعادة التوحد بين الهنود الهندوسيين والهنود المسلمين، ولكن هذه الدعوات لم تلقى قبول الأغلبية الهندوسية المتعصبة، فقررت جماعة منهم اغتيال غاندي بعد أن اعتباره خائناً، وفي يناير من عام 1948م، قام الهندوسي المتعصب ناثورم جوتسي بإطلاق ثلاث رصاصات على مهاتما غاندي ،أسقطته صريعاً على الفور ورحل عن عالمنا عن عمر يناهز 78 عاماً.