تحريم الكذب ورد صريحاً بأحكام الشريعة، بموجب ما ذُكر بنصوص القرآن وكذا بأحاديث النبي الكريم، وأسباب تحريم الكذب بالغة التعدد، ومن خلال استعراضها يمكن تبين فضل الصدق وفوائده، التي ينالها الإنسان المؤمن والمجتمع المستقيم، وكذا يتضح لنا كم المفاسد التي قد تحيق بالإنسان والمجتمع إذا ما كان الكذب من صفاته، ومن هذا وذاك تتجلى لنا حكمة المولى عز وعلا من تحريم الكذب
تحريم الكذب في الشريعة الإسلامية :
في الالتزام بـ تحريم الكذب فوائد عديدها للبشر، فليتهم يلتزموا، ولأن الأشياء تعرف بنقيضها، فإذا ابتغينا التعرف على الفائدة من تحريم الكذب ،فما علينا سوى النظر إلى الآثار الناجمة عن تفشيه وانتشاره، ولكن قبل ذلك يجب التعرف على دوافع اتجاه المرء لمثل هذا الفعل المشين.
أولاً : دوافع الكذب :
تحريم الكذب مثله كمثل كل الأمور المحرمة في الشريعة الإسلامية، جاء ليمنع وقوع جرم في حق النفس والمجتمع، شأنه في ذلك شأن تحريم الميسر وتحريم السرقة وغيرهما.. ولكن باعتبار الكذب في الأساس جريمة، فما من جريمة تقع دون أن يكون لها دوافع، فما هي الدوافع وراء ارتكاب جرم النطق بغير الحق؟، والتي في واقع الأمر تعد من ضمن أسباب تحريم الكذب
أ) الاعتياد على الكذب :
الأمر المحزن هو أن البعض يكذبون فقط لمجرد اعتياد الأمر، فبحسب حديث الرسول الأمي عليه أفضل الصلاة والسلام، فإن الرجل مع تماديه في ارتكاب الكذب يُكتب عند الله كذاباً، فـ تحريم الكذب جاء وقاية من تلك الخصلة لا تلك الفعلة، فالكذب في الأصل فُعل مُحرم، ارتكابه يحوله إلى عادة مُحرمة، وبالتأكيد الكف عن الفعل أيسر كثيراً من التخلص من العادة.
ب) الطمع :
من بين أسباب تحريم الكذب بالإسلام أيضاً، هو اعتباره فعلاً لا يأتيه الإنسان غالباً، إلا إذا كان يضمر في نيته السوء، أي أن الكذب هنا لا يكون غاية بل أنه وسيلة، ونهج يتبعه ضعيف الإيمان لاغتصاب ما لا يحق له، فالطمع هو الماء الذي تروى به بذرة الكذب الخبيثة، وتزوير الأوراق أو الشهادة الزور من مظاهر الكذب، وبالتأكيد الإنسان لا يسعى إلى تزييف الحقائق بقصد الخير.
ج) الحقد والحسد والعداء :
حين لا يجد الإنسان ما يضارع به غيره، ولا يمكنه مجاراته أو التفوق عليه، فالخطة البديل تكون الحض من قيمته وقدره، فإما أن يبلغ هو منزلة الآخر العليا، أو يخفض به هو إلى منزلته الدنيا.. بالطبع ذلك يقتصر على الإنسان البعيد عن الله، صاحب الإيمان الضعيف والنفس المشوهة، ولهذا أيضاً تم تحريم الكذب ،باعتباره الوسيلة الأسهل، والتي حين يبيح الإنسان لنفسه استخدامها، يزداد ابتعاداً عن المولى عز وجل، وبدلاً من أن يعمل على الارتقاء بذاته وطلب العون من خالقه، يعمل على تشويه صورة الآخرين والتقليل من شأنهم زوراً، وبالتالي لا يجني من وراء هذا كله سوى تلال من الذنوب.
د) السخرية والاستهزاء :
يخلط البعض خطأً بين الانباط وبين الكآبة والضيق، في حين أنه لا ضير من الجمع بينهما، بل العكس ذلك هو الصواب والمفترض، ومن بين أسباب تحريم الكذب ودوافعه في آن واحد، هو أنه قد يستخدم فقط بهدف التندر، والتندر والمزح في الإسلام لا يعد من المُحرمات، لكن إذا كان ذلك التندر يجرى من خلال السخرية والاستهزاء بالآخرين، يصبح محرماً وجُرماً يحاسب عليه المرء في اليوم المعلوم، وقد جاء النهي عن السخرية صراحة في نص القرآن، وإذا كانت السخرية نابعة من الافتراء والكذب، فذلك يزيد الأمر سوءاً ويُغلظ من العقاب الإلهي لممارس الفعل.
ثانياً : أسباب تحريم الكذب بالإسلام :
تحريم الكذب الذي قضي به المولى عز وجل، جاء رحمة منه بالإنسان، ورغبة منه في جعل حياة الدنيا يسيرة وهنيئة، خالية من المنغصات، ولينأى به عن الصعاب والمشكلات والعقابات والعراقيل في الحياة، وهذا يمكن لنا تبينه من استعراض الفوائد العظمية، التي تتحقق من تحريم الكذب وتجنبه سواء للفرد أو المجتمع.
أ) تحريم الكذب حماية للكاذب :
تحريم الكذب في تعاليم وأحكام الشريعة الإسلامية، بعكس ما هو شائع، لم يأت فقط حماية للإنسان من أن يُكذب عليه، فيُضل ويرى الأمور على غير حقيقتها، بل أن تحريم الكذب وقاية للكاذب ذاته مما قد يلحق به من أضرار، ومن أمثلة أمثلة تلك الأضرار:
1- النبذ والوحدة :
الشخص الكاذب أو الشخص المنافق وكل من يتسم بأي خصلة ذميمة، بطبيعة الحال يبغض الناس معاشرته، فالفطرة التي خلقنا عليها تتنافى مع الخصال السيئة، وبالتالي فإن الشخص الكاذب مع الوقت يجد أن حياته صارت خاوية، إذ ينفر منه الجميع ويتحاشون التعامل معه، ومن ثم يهجرونه ويتركونه وحيداً، والإنسان بطبعه كائن اجتماعي لا يقدر على العيش منفرداً، للدرجة التي أصبح منها العزل واحدة من أقسى أساليب التعذيب، حتى أنها تستخدم كنوع من العقاب للمتمردين من السجناء، أي أن الكذب في النهاية يقود بصاحبه إلى سجن افتراضي من اختياره، ومن ثم يكون تحرم الكذب قد جاء حماية للإنسان من شر النفس الأمارة.
2- سيل الذنوب :
تحريم الكذب لم يكن مبعثه الوحيد أنه خطيئة في ذاته، بل يمكن القول أن الكذب هو مجرد حلقة أولى بسلسلة طويلة من الخطايا، فالإنسان الكاذب لا يتوقف نزيف حساناته وفيض سيئاته بإطلاق الكذبة، بل أنه سيضطر مجبراً إلى الخوض في وحل الذنوب، وارتكاب أخطاء أخرى أفدح واشد، فقط من أجل أن يحمي كذبته الأولى، وحتى لا يتم فضح أمره واكتشاف حقيقته، ففي الحقيقة أن تحريم الكذب لا ينجي الإنسان من ارتكاب ذنب فحسب، بل أنه يحمي من الغرق في بئر ذنوب، لا قرار له ولا نجاة منه إلا بالتوبة.
ب) تحريم الكذب حماية للمجتمع :
الغاية والهدف من تحريم الكذب أكثر شمولاً مما ذكر، فالفائدة التي تتحقق من ذلك لا تقتصر على الفرد فحسب، بل أنها تمتد لتشمل المجتمع ككل، فتحافظ عليه وتحفظ وحدته وتماسك نسيجه، ومن تلك الأسباب يبين لها حكمة الخالق تعالى من تحريم الكذب ،ومن أمثلة عظيم الفوائد التي يحققها الصدق للمجتمع ما يلي:
1- استقرار العلاقات الإنسانية :
العلاقات الإنسانية على اختلاف أشكالها وتنوعها، تبادل الثقة هو ركيزتها الأساسية وحجر الأساس الذي تُقام عليه، ومن أهم الأسباب التي تم من أجلها إقرار تحريم الكذب ،هو أنه يُضعف تلك الثقة الرابطة بين أفراد المجتمع، فينبذون بعضهم بعضاً، والأرض التي يقفون عليها مُشكلة من الشك والتخوين، وهما بالتأكيد صفتان لا يمكن أن تستقيم معهما الأمور.
2- مضيعة الوقت والجهد :
لنتصور من كيف سيكون حال مجتمع شاع به الكذب؟.. بالتأكيد ستنعدم الثقة بين أفراده ويتفكك نسيجه كما ذكرنا، وانعدام الثقة يترتب عليه العديد من العواقب الوخيمة، ولعل أخطرها هو تبديد الوقت والجهد، حيث يلعب الأفراد جميعهم دور المحقق، في محاولة لتقصي الحقائق والتفرقة بينها وبين الأكاذيب، وينشغل الجميع بالتافه من الأمور عن أهمها، مما يخفض من إنتاجيته ويؤدي إلى تراجعه، ومن هذا تتجلى لنا الحكمة من تحريم الكذب وعظيم أثره.
3- إشاعة الفوضى والفساد :
يؤكد العلماء على أن تطبيق الشريعة الإسلامية بالشكل الصحيح، هو أمل الدول العربية الوحيد لتحقيق النهضة المنشودة، ومن بين أحكام الشريعة التي تنهض بالأمم، هو تحريم الكذب واعتباره واحدة من أفدح الخطايا، حيث أن الكذب والتزييف وإبدال الحق والبطل، جميعها أمور تشكل بيئة خصبة لنمو الفساد، ومن ثم يستشري وتنتشر معه الفوضى على كافة الأصعدة، الأمر الذي يعيق عمل عجلات التنمية والتقدم، ويدفع بالمجتمع إلى عصر الجاهلية ويقوده إلى التخلف والانهيار.