ابن رشد الحفيد هو أحد أشهر فلاسفة وعلماء العرب، وُلِد في مدينة قرطبة ونشأ وترعرع في الأندلس، تعلم الطب والفقه المالكي والفيزياء والفلك وبرع فيهم جميعاً، تولى لفترة منصب القاضي بمدينة إشبيلية ثم مدينة قرطبة، وبعدها ترك القضاء ليتفرغ لعمله كطبيب، بعدما تم ضمه إلى بلاط الخليفة الموحدي أبو يعقوب ليكون طبيبه الخاص، لكن تبقى الفلسفة0 هي شغل ابن رشد الشاغل، وإسهاماته بها صنعت مكانته، وكتبت لاسمه الخلود كأحد أبرز الأسماء في التاريخ.
أهمية فلسفة ابن رشد :
إسهامات ابن رشد الفلسفية هي التي كتبت لاسمه الخلود، هي التي أقامت له تمثالاً في أكبر ميادين أسبانيا.. فـ ابن رشد ليس مجرد فيلسوفاً نمطياً، بل من الممكن أن يُوصف بالفيلسوف المعلم المناضل، الذي تولى منفرداً مهمة الدفاع عن الفلسفة والفلاسفة، وحرص على شرحها وتلقينها وتوضيح مضامينها وأفكارها، ومن الممكن إيجاز أهم تأثيرات ابن رشد الفلسفية في ثلاث نقاط رئيسية، هي :
أولاً : الرد والإقناع :
سواء اتفق من عاصر ابن رشد من فلاسفة مع رؤاه أو اختلفوا معها، فأنهم أولاً وأخيراً يدينون جميعاً له بالفضل، وذلك لأن ابن رشد قد حمل على عاتقه مهمة الدفاع عن الفلسفة، وحمل لواء الدفاع عن الفكر الفلسفي عموماً، ففي عصر ابن رشد عانت الفلسفة والفلاسفة من هجمات ضارية، خاصة من قبل الفرق الكلامية والطوائف المتشددة دينياً، والتي كانت ترفض الفكر الفلسفي ومحاولة التوصل للغيبيات من خلال إعمال العقل، وتمكنوا في مواضع كثيرة من اجتذاب العامة إليهم، وضمهم إلى صفوفهم في ثورتهم ضد الفلاسفة والأفكار الفلسفية، ثم جاء ابن رشد وتولى مهمة الرد عليهم والدفاع عن الفلسفة والفلاسفة، خاصة وأنه كان يمتاز بالحكمة والقدرة على التحاور والإقناع..
كتاب تهافت التهافت :
تهافت التهافت هو أحد أشهر مؤلفات الفيلسوف العربي ابن رشد ،والذي تولى من خلال فصوله الرد على الانتقادات الواسعة الموجهة للفلاسفة، ودافع عن الفلسفة كفكر وعلم بصفة عامة، وعلى وجه الخصوص يعتبر كتاب تهافت التهافت لـ ابن رشد ، بمثابة رد مباشر على ما الأفكار التي روجها العالم أبو حامد الغزالي، والذي وضع كتاباً كاملاً اسماه تهافت الفلاسفة لشن هجوماً ضارياً عليهم، وتأثرت الفلسفة سلباً لحقبة طويلة بسبب هذا الكتاب، إذ كان يتمتع الغزالي بشعبية طاغية وكان العامة يستمعون له، حتى أنه لُقب في عصره بلقب حجة الإسلام، لكن ابن رشد من خلال فكره الحكيم وأسلوبه الرشيق الرشيد، تمكن من الرد على كل موضع ومحاولة تشكيك وردت بكتاب الغزالي.
تاريخ الكتاب :
تاريخ كتابة كتاب تهافت التهافت ليس معلوماً بدقة، فقام المفكرون بالاعتماد على التخمين في تحديد زمن كتاباته، واستناداً لما يتجلى به من تفكير ناضج واطلاع واسع، رجح المفكرون أن ابن رشد قد كتبه في آواخر حياته، خاصة أن ابن رشد لم يذكر شيئاً عنه في كتابه فصل المقال، ذلك الكتاب الذي كتبه وهو في الـ 45 من عمره، أي خلال عام 1180م تقريباً، مما يزيد احتمال أن يكون تهافت التهافت قد كُتب في وقت لاحق لذلك.
ثانياً : ابن رشد ووصل الحكمة والشريعة :
العامل الثاني الذي ترتكز عليه فلسفة ابن رشد وأفكاره، ومنها جاءت أهميته واكتسب شهرته، هو محاولاته الحثيثة لإيجاد نقاط التلاقي والتوافق بين الحكمة والشريعة، ففي زمنه كان الهجوم على الفلاسفة يستند إلى شيء واحد، وهو أن الفكر الفلسفي يتعارض تعارضاً صارخاً مع الشريعة، بل ويخالفها في العديد من النواحي، وبعض مهاجمي الفلاسفة ذهبوا لأبعد من ذلك فوسموهم بالزندقة واتهموهم بالكفر، وحين جاء ابن رشد أراد الرد على ذلك بأسلوب مختلف، فبدلاً من أن يلعب دور المحامي ويتخذ موقع المدافع، دأب على إيجاد نقاط الوصل بين الحكمة أو الفلسفة وبين أحكام الشريعة الإسلامية، فـ ابن رشد بذلك لم يبين فقط أنه ليس هناك ثمة تعارض بين الفلسفة والدين، إنما أثبت أن الفلسفة من وسائل التفقه والتدبر والتوصل إلى حقائق الأمور الدينية، وأفرد كتاباً كاملاً لمناقشة مثل هذه القضايا، وأسماه “فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال”.
مبدأ التأويل :
أقر ابن رشد بأكثر من موضع وخاصة بكتابه فصل المقال، بأن مبدأ التأويل من الأمور الهامة والضرورية لكل من الدين والفلسفة، حيث أن الدين يُلزم الإنسان بالتفكر والنظر العقلي وهو الأمر ذاته الذي تدعو إليه الفلسفة، وأكد ابن رشد على أنه لا يمكن أن يكون هناك تصادماً بين الشرع والعقل، لذا دعا إلى تأويل الظواهر التي تخالف نصوص القرآن وظاهر الشرع.. وأكد ابن رشد على أن هناك من الأمور ما لا يحتمل التأويل أو التفسير، وهي تلك التي تتماثل ظواهرها مع بواطنها، كما قال بأن هناك أموراً أخرى لا يتولى تأويلها سوى أهل العلم، وذلك لتعقيدها وحساسيتها ولأن دلالتها الظاهرية تبطن دلالة أخرى..
مبدأ القياس :
ضرورة التفكر وإعمال العقل في كافة أنواع المسائل والظواهر، من الأمور التي أكد ابن رشد على ضرورتها مراراً وتكراراً بكتبه، وأورد العديد من آيات القرآن التي تحث الناس على التأمل والبحث عن البراهين، بمعنى الاعتماد على المعطيات المعلومة للتوصل إلى الأمور المجهولة، وهي القاعدة التي يتأسس عليها مبدأ القياس العقلي، وهو المبدأ الذي دعا ابن رشد إليه دوماً، والذي يعد أحد أسس الفكر الفلسفي.
ومن خلال كل ذلك تمكن ابن الرشد من الوصول إلى نتيجة، ألا وهي أن الدين يوجب التفكير وإعمال العقل، وهي ذات الأمور التي توجبها الفلسفة وتقوم عليها، ومن ثم فأنه لا يوجد تعارض بين هذا وذاك، بل أن هناك نقاط تلاقي واتصال بينهما.
ثالثاً : ابن رشد وشرح فلسفة أرسطو :
موقف ابن رشد من فلسفة الغرب أعلنه بوضوح وصراحة، قائلاً بأنه ليس هناك ما يمنع عن الأخذ منها، حتى وأن كان فلاسفتها ومفكريها على غير الإسلام، رافضاً زعم أن الفلسفة تقود بالإنسان إلى الكفر، مؤكداً على أن الفلسفة لا علاقة لها بهذا الأمر، إنما هو يتوقف على رؤية وتوجه من يتناول موضوعاتها.. لا عجب من أن يكون هذا رأي ابن رشد في الفلسفة الأعجمية، فمن كتاباته يتضح تأثره الشديد بعظيمي اليونان أفلاطون وأرسطو، ولا عجب أيضاً أن يكون ثالث أهم إسهاماته، أنه تولى شرح فلسفة ونظريات أرسطو، حتى أطلق عليه لقب الشارح الكبير.
الشرح :
حوالي 30 عاماً استغرقهم ابن رشد في شرح وبيان أعمال أرسطو، تمكن خلال هذه الفكرة من تناول كافة الرسائل والكتب التي كتبها أرسطو، باستثناء عمل واحد وهو كتاب السياسة، والسبب في ذلك عدم تمكنه من الحصول على نسخة منه، بل أنه صحح بعض الأخطاء التي سقط بها من سبقوه إلى النظر في الفكر الأرسطي، مثل الفارابي وابن سينا وغيرهما، كما قام بتدريسها وتلقينها لمن عاصره من فلاسفة.
كتب الشروحات :
ما يضاعف من قيمة عمل ابن رشد في هذا الصدد، هو الصعوبة البالغة والتعقيد الشديد اللذان تمتاز بهما أفكار أرسطو، وقد فشل كثيرون قبل ابن رشد في فحل تعقيدها وشرح مضمونه بأسلوب مُبسط، أما هو فقد فعل ذلك من خلال عِدة كدة ورسائل وتلخيصات، أهمها :
- شرح كتاب النفس.
- شرح كتاب القياس
- تلخيص كتاب “الميتافيزيقا” ما وراء الطبيعة.
- تلخيص كتاب “الأورغنون” أو البرهان.
- تلخيص كتاب “قاطيفورياس” المقولات.