سيرة نيلسون مانديلا تختلف عن كافة سير الرؤساء والملوك، فسير هؤلاء تبدأ عادة بتوليهم للمنصب وامتلاكهم للسلطة، أما نيلسون مانديلا فأغلب إسهاماته كانت خلال الفترة التي سبقت توليه المنصب، أو بمعنى أصح إن تلك الإسهامات هي ما أهلته لتولي المنصب، وجعلته رمزاً من رموز النضال والثورة من أجل الحرية والكرامة والمساواة.
نيلسون مانديلا .. الرجل الذي لا يُقهر :
يحظى نيلسون مانديلا بشعبية طاغية، ليس في وطنه فقط إنما في العالم أجمع، فرحلته النضالية وثباته على المبادئ المؤمن بها، والتي لم تثنيه عنها الويلات التي لحقت به أو المعناة التي عايشها، جعلت منه رمزاً وملهماً للكثيرين حول العالم، فكيف كانت رحلته وما العقبات التي واجهته وكيف تخطاها؟
دراسة القانون ومواجهة العنصرية :
رحلة نيلسون مانديلا النضالية الحقيقية بدأت مع التحاقه بالجامعة، فميله بفطرته إلى تحقيق العدل وترسيخ مبدأ المساواة، دفعه إلى التخصص في دراسة القانون، فالتحق بجامعة ويتواترسراند في عام 1943م، وكان نيلسون مانديلا آنذاك هو الطالب الوحيد الذي يندرج من أصول إفريقية، الأمر الذي جعله يتعرض إلى الاضطهاد العنصري من قبل الطلبة الآخرين، الأمر الذي فرض عليه نمط معين من الصداقات، فوجد نفسه يتقرب مرغماً من الجماعات الليبرالية والشيوعية المؤلفة من أفراد أوروبيين، وقضى أغلب وقته في رفقة هؤلاء، فتشبع بالكثير من رؤاهم وأفكارهم، ومن خلالهم التقى بالإفريقي المناهض للاستعمار والتمييز العنصري أنطون لمبدي، والذي كان لعب الدور الأكبر في تشكيل أفكار نيلسون مانديلا
تأسيس رابطة الشبيبة :
رغم الصداقة التي ربطت نيلسون مانديلا بالعديد من الشيوعيين الأوروبيين، إلا إنه وجد نفسه يمل أكثر إلى آراء أنطون لمبدي، إذ رأى إنها الأكبر إلى الواقع والأقدر على تحقيق غاياتهما المأمولة، واتفق نيلسون مانديلا وأنطون لمبدي على ضرورة استقلال الزنوج الأفارقة، وأن تكون حربهم ضد الاستعمار وتقرير المصير السياسي، غير مدعومة من قبل أي أجنبي متعاطف أو متضامن، فبدأ نيلسون مانديلا على الفور بإعلان حالة التعبئة العامة، فراح هو ورفيقه يناديان بتوحيد صفوف كافة الأفارقة المعارضون، ثم شكلوا وفداً كان نيلسون مانديلا ضمن أفراده، وزار ذل كالوفد السيد ألفريد كسوما رئيس الحزب الوطني الإفريقي، وبعد هذه الزيارة تم إعلان تأسيس رابطة الشبيبة للمؤتمر الوطني الإفريقي بشكل عام، وتقلد أنطون لمبدي منصب الرئيسي بالرابطة الجديدة، بينما كان نيلسون مانديلا عضواً من أعضاء اللجنة التنفيذية.
الاعتقال والسجن :
قضي نيلسون مانديلا ورفاقه سنوات في النضال من أجل حقوقهم، ولكنهم لم يتأكدوا من إن لهم تأثير قوي إلا في أغسطس 1962م، حين ضاقت الدولة بهم ولم يعد من الممكن تجاهلهم واعتبارهم نكرة عديمة التأثير، فقامت قوات الشرطة بملاحقتهم، وتم إلقاء القبض على نيلسون مانديلا مع زميله سيسيل ويليمز، وتم إيداع كلاهما في سجن مارشال بجوهانسبرج، وخلال التحقيقات وجدا نفسيهما يواجهان العديد من التهم المعدة لهم مسبقاً، وعرى رأسها تحريض العمال على القيام بالإضرابات، والعجيب إن نيلسون مانديلا لم ينكر مثل هذه التهم الموجهة إليه، بل رأى إنها حق أصيل للعمال والمواطنون، وإنه لا يحق لأي شخص محاكمة أحد على أفكاره وتوجهاته، أو معاقبته لإنه ينادي بحقوقه المشروعة ويطالب بها.
منصة المحكمة والدعوة للحزب :
حين خضع نيلسون مانديلا للمحاكمة رفض أن يمثله محام، وطالب بأن يتولى هو بنفسه مهمة الدفاع، وحين اتيحت له فرصة الحديث، لم يتحدث عن التهم الموجهة إليه ولم يحاول تبرأة نفسه منها، بل استغل وجود وكلات الأنباء والصحفيين من حوله، وبدأ يعرض لرحلة حزب المؤتمر الوطني الإفريقي النضالية، وكيف يسعى لترسيخ المساواة والقضاء على العنصرية، وكانت كلمات نيلسون مانديلا بالمحكمة بمثابة خطبة سياسية حماسية، ألهبت صدور أعضاء حزبه والمتعاطفون مع القضية والمعانون من الممارسات العنصرية، فاجتمعوا جميعاً خارج مبنى المحكمة يهتفون لـ نيلسون مانديلا ويعلنون رفضهم للعنصرية والاضطهاد، وفور اختتام نيلسون مانديلا لخطابه السياسي في المقام الأول، اعتبرته المحكمة مُذنباً وأمرت بسجنه لمدة 5 سنوات.
هزيمة السجن :
لم ينال السجن من عزيمة نيلسون مانديلا ،كيف ينال وقد قضى سنوات سجنه في التعمق بالقانون، ودرس بجامعة لندن بنظام الدراسة عبر المراسلات، وحين غادر زنزانته غادرها حاملاً شهادة موثقة تثبت حصوله على ليسانس الحقوق من جامعة لندن، كما إنه استفاد من تلك العزلة في القراءة والمطالعة بكثرة، الأمر الذي زاد تفكيره عمقاً وأعاد تشكيل شخصيته، التي صارت خلال هذه المرحلة أكثر حكمة وتعقلاً من ذي قبل، ويقول نيلسون مانديلا إنه تأثر كثيراً بشخصية الرئيس المصري جمال عبد الناصر، الرجل الذي ظهر في شمال قارته السمراء –قارة إفريقيا- ينادي بتحطيم التفرقة الطبقية، ويسعى إلى المساواة بين الجميع، وإجمالاً يمكننا القول بإن نيسلون مانديلا تمكن من الهزيمة السجن الذي لم ينل منه شيئاً.
مواصلة النضال والاعتقال الثاني :
ومن ثم عاد نيلسون مانديلا لمواصلة رحلة نضاله ضد التفرقة العنصرية بشتى أنواعها، واستمر ذلك حتى شهر يوليو من عام 1963م، إذ قامت قوات الشرطة في هذا التاريخ بمداهمة مزرعة يليسليف، وعثرت هناك على مجموعة وثائق ومكاتبات وتقارير متعلقة بعمل مجموعته السرية، وكان بعدها يحتوي على اسم نيلسون مانديلا صريحاً، الأمر الذي ترتب عليه إلقاء القبض عليه مجدداً هو وكامل المجموعة المناصر له، وهذه المرة كانت التهم الموجهة أخطر من تلك التي وجهت في المرة الأولى، فقد وجد نيلسون مانديلا نفسه هذه المرة متهماً بالقيام بأعمال تخريبية، والتخطيط لإشعال حرب عصابات في مواجهة القوات النظامية، والسعي إلى الإطاحة بالحكومة وتكدير السلم العام باستخدام العنف.
تسليط الضوء على القضية :
“المحن منح” هذا القول المأثور كثيرون يكذبون به، لكن من الواضح إن نيلسون مانديلا لم يكن أبداً من بين هؤلاء المكذبين، فقد رأى إن الحكومة قد منحته بهذه الاتهامات هدية على طبق من الذهب، فالمبالغة الواضحة في الاتهامات التي وجهت إليه هو ورفاقه، جذبت أنظار العالم أجمع إلى المُحاكمة، وللمرة الثانية طالب نيلسون مانديلا بتولي مهمة الدفاع عن نفسه، وللمرة الثانية أيضاً نأى عن الدفاع، وراح يخطب معبراً عن معاناته هو وأمثاله من ويلات العنصرية، ونقلت الصحف ووسائل الإعلام المختلفة خطاب مانديلا، وهذه المرة حقق هدفه كاملاً، إذ نجح في جذب أنظار المجتمع الدولي إلى قضيته، ورغم إدانته هو ومجموعته من قبل هيئة المحكمة، إلا إنهم غادروا بناء المحكمة وهم المنتصرون، فقد ترتب على محاكمتهم:
- دعت هيئة الأمم المتحدة إلى إطلاق سراح المتهمين.
- الدعوة ذات وجهت من مجلس السلم العالمي.
- تنظيم وقفات احتجاجية أمام كاتدرائية سانت بول الإنجليزية، معلنة التضامن مع نيلسون مانديلا ورفاقه.
- طلاب جامعة لندن نصبوا نيلسون مانديلا رئيساً شرفياً لها.
- تعاطف الشعب الجنوب إفريقي مع نيلسون مانديلا ،واتهم النظام الحاكم وقتها بتلفيق التهم إليه هو ورفاقه.
السجن مدى الحياة :
كل هذه الخطوات التصعيدية لم تثن محكمة جنوب إفريقيا عن قرارها بإدانة نيلسون مانديلا وشركاه، لكنها أجبرتها على تخفيف الحكم، والذي كان قد صدر بالإعدام باعتبار المتهميين عناصر شيوعية مُخربة، ثم خفف وحكم بالسجن لعدة سنوات على كافة المتهمين، أما نيلسون مانديلا واثنين آخرين حُكم عليهم بالسجن مدى الحياة، باعتبارهم العقل المدبر والمحرض على الجرائم المرتكبة.
معاناة السجن :
في سجن جزيرة روبن آيلاند قضى نيلسون مانديلا 18 عاماً، كل يوم فيهم تعرض فيه للكثير من المضايقات من قبل الحراس المنتمون للجنس الأبيض، يقوم خلال ساعات النهار بتحطيم الصخور في المحاجر، وفي المساء يُحبس داخل زنزانة انفرادية بمقاس 7 أقدام، ثم قاموا بنقله إلى محاجر الجير كنوع من العقاب على اعتزازه بنفسه ورفضه أن يعامل كعبد، وهناك منعوه من ارتداء أية نظارات أو واقيات للعين، وهو الأمر الذي تسبب في تضرر بصر نيلسون مانديلا مدى حياته، وانتقل خلال فترة سجنه بين العديد من السجون، كل منها كان اسوأ حالاً من الذي سبقه، فتدهورت حالته الصحية بشكل ملحوظ.
الخروج من السجن :
بعد سقوط جدار برلين في 1989م عدلت قامت العديد من الدول بإجراء تعديلات بسياستها الداخلية، وكانت جنوب إفريقيا من تلك الدول، فقامت بتقنين أوضاع حزب المؤتمر الوطني كما تم الإفراج عن نيلسون مانديلا وأكثر من معتقل، فلم يعد هناك في نيلسون مانديلا ما يخيف على أي حال، صار رجل كبير السن متدهور الصحة ضعيف النظر، بالكاد يستطيع الوقوف ثابتاً والمشي لبضعة خطوات، ولكنهم أخطأوا الظن فإن الحلم ما بقي يُبقي صاحبه حياً، وكان حلم نيلسون مانديلا لا يزال حياً في صدره، بمعنى أصح الحلم هو ما أبقى نيلسون مانديلا حياً طوال فترة سجنه الطويلة، وفور خروجه من السجن وأمام كاميرات الصحفيين المحتشدين لتسجيل الحدث، أمسك نيلسون مانديلا بيد زوجته الوفية، التي رافقته في رحلته ولم تتخل عنه لحظة واحدة، وأعلن على الملأ إنه لن يتراجع عن معتقادته وأفكاره، وإنه لن يتوقف عن مواصله طريقه نحو القضاء على العنصرية والتمييز، إلا حين تتوقف عضلة القلب في صدره عن النبض.
جولة نيلسون مانديلا الإفريقية :
كان يحتاج نيلسون مانديلا إلى شئ واحد ليواصل رحلته، ذلك الشئ هو الدعم وحشد الرأي العام الإقليمي والعالمي خلفه، فأول ما قام نيلسون مانديلا به فور خروجه من زنزانته، هو التجول في النطاق الإفريقي ليعرض قضيته على المهتمين بالشأن العام، فقام بزيارة زامبيا وزيميبابوي ونامبيبيا في البداية، ثم اتجه بعد ذلك إلى الدول العربية الإفريقية في الشمال، فزار كل من الجماهيرية الليبية والجزائر، وما لاقاه من دعم شجعه على التمادي في مسيرته وخطته، فعبر القارات وتوجه إلى السويد ومنها إلى العاصمة الإنجليزية لندن، والتقى هناك برئيسة وزراءها السيدة مارجريت تاتشر، وبالولايات المتحدة استقبله الرئيس بوش الأب، وزار كذلك أسترليا وماليزيا واليابان وإندونيسيا، وشجع نيلسون مانديلا قادة العالم على فرض عقوبات ضد حكومة الفصل العنصري، ولاقى دعماً كبيراً سواء من الحُكام أو الشعوب.
والعجيب إن رحلة نيلسون مانديلا لم تتضمن الاتحاد السوفيتي، على الرغم من إنه كان داعم دائم لحزب المؤتمر الوطني الإفريقي، لكن ربما لم يرد نيلسون مانديلا إهدار الوقت في مقابلة من يدعمونه، إنما أراد زيارة هؤلاء الواقفون على الحياد، ليجذبهم إلى صفه وينال دعمهم في نضاله ضد العنصرية ببلاده.
محادثات كوديسا :
جاءت رحلة نيلسون مانديلا واسعة النطاق بثمارها في عامي 1991: 1992م، حين عقدت المؤتمرات التي عرفت إعلامياً بمباحثات كوديسا، والتي دعت إلى إرساء الديمقراطية في دولة جنوب إفريقيا، وحضر المباحثات أكثر من 200 مندوباً يمثلون عدة أحزاب سياسية، ورغم إن وفعد الحزب المؤتمر الوطني كان يترأسه السيد سيريل رامافوزا، إلا أن نيلسون مانديلا هو الشخصية الأبرز بالمؤتمر. وتلك الشعبية الطاغية التي بات يتمتع بها نيسلون مانديلا ،هي ما مكنه من الفوز بانتخابات الرئاسة في عام 1994م، ورغم إن كانت هناك تخوفات من استمرار النزاعات العرقية حال فوز نيلسون مانديلا ،باعتباره أول رئيس زنجي لجنوب إفريقيا بأول انتخابات متعددة الأعراق، أو أن يسعى هو نفسه إلى الانتقام من مؤيدي التمييز العنصري، إلا أن الجميع فوجئوا بالرئيس الجديد يدعو إلى السلام والوحدة والتآلف، وعدم الالتفات لما كان في الماضي.
وبفضل المساواة التي ناضل نيلسون مانديلا من أجلها، وبفضل الوحدة التي حققها على أرض وطنه، صارت جنوب إفريقيا اليوم واحدة من أكثر دول القارة السمراء ازدهاراً، وقد تم إصدار العديد من الكتب المتناولة لرحلة كفاح نيلسون مانديلا ،كذلك خلدت السينما ذكراه من خلال عِدة أفلام، وأشهر من جسد شخصيته على الشاشة هو نجم هوليود المتألق مورجان فريمان، وذلك من خلال الفيلم الصادر في 2009 بعنوان “Invictus” أو “الذي لا يقهر”، وهو مأخوذ عن الرواية المتناولة لسيرة نيلسون مانديلا ،والتي صدرت بعنوان “ملاعبة العدو: اللعبة التي صنعت أمة”.