معركة عين جالوت هي واحدة من أشهر المعارك الفاصلة في التاريخ العربي والإسلامي، فتلك المعركة التي جرت في الخامس والعشرين من رمضان عام 658هـ الموافق 1260م، تمكن المسلمين خلالها من هزيمة جموع التتار والقضاء على خطرهم إلى الأبد، ولكن قيمة معركة عين جالوت كحدث تاريخي لا تتمثل فقط في الانتصار العظيم الذي تحقق، أو إنها دليل على التفوق العربي العسكري، إنما هي قدمت أيضاً دروساً سياسية تعتبر من أسس إدارة الدول والنهوض بها حتى زمننا هذا.
استعدادات معركة عين جالوت وقيمتها :
النصر في معركة عين جالوت لم يتحقق بالمواجهة المباشرة بين الجيشين، بل إن ذلك كان فقط الحلقة الأخيرة في سلسلة طويلة من الاستعدادات والتمهيد، والتي كانت ضرورية لتحقيق النصر والتي تؤكد على إن قطز ورفاقه كانوا سياسيون بارعون بقدر ما كانوا عسكريون دهاة، ومن أمثلة ذلك ما يلي:
الاستقرار الداخلي منبع القوة :
معركة عين جالوت لم تقدم دروساً عسكرية فقط بل قدمت دروساً سياسية أيضاً، فقد أثبتت أن النصر في الحروب لا يتحقق فقط بالقوة العسكرية وبراعة التخطيط، إنما القوة للدول لا تنبع إلا من استقرار أوضاعها السياسية الداخلية أولاً، وكان سيف الدين قطز يعي هذا جيداً، وأول ما فعله عند الاستعداد لمواجهة التتار، هو إنه اجتمع بقادة وعلماء الأمة ووحدهم على قلب رجل واحد، ثم قام باعتقال مثيري الفتن ومفرقي وحدة الصف، وعلى الجانب الآخر تصالح مع خصومه ممن لا غبار عن وطنيتهم أو ولائهم للوطن، وهم جماعة المماليك البحرية الذين فروا للشام بعد مقتل أميرهم فارس الدين أقطاي.
القوة الاقتصادية :
أثبتت معركة عين جالوت أيضاً وحرب التتار إن القوة الاقتصادية للدول لا تقل أهمية عن القوة العسكرية، أو بمعنى أصح فإن توفر الأولى يقود إلى تحقيق الثانية، ودليل ذلك هو إن أكبر الأزمات التي واجهت قطز وقادته أثناء الاستعداد للمعركة، هو تدهور الوضع الاقتصادي في مصر، وعدم توفر النقود اللازمة لتجهز الجيش وإعادة بناء القلاع ومد الجسور وإقامة الحصون، ومن ثم كان همهم الأول وقبل مجرد الشروع في مواجهة التتار، هو إيجاد موارد جديدة لخزينة الدولة والنهوض بالاقتصاد، وذلك لتوفير ما يلزم من المال لإعادة بناء الجيش، وفي ذات الوقت تأمين الوضع الداخلي بتخزين المؤن، التي تضمن استقرار الوضع وعدم حدوث مجاعة حال محاصرة المدن من قبل التتار.
العدالة الاجتماعية :
ضربت معركة عين جالوت مثال رائع في ترسيخ مبادئ العدالة الاجتماعية، والفضل في ذلك لا يعود لسيف الدين قطز بقدر ما يعود للشيخ العلامة العز بن عبد السلام، فقد كان يفكر قطز في فرض ضرائب إضافية على شعب مصر، بهدف توفير المال اللازم لتصنيع الأسلحة وتجهيز الجيش، وحين عرض الأمر على مستشاريه رفضه العز بن عبد السلام، ورأى إن ذلك سيشكل عبء على البسطاء من عامة الناس، وإن الأصح هو الأخذ من أموال فاحشي الثراء والأمراء وكبار التجار، فإن لم تكفي يجوز حينها فرض الضرائب على البسطاء، وعند ذلك سيدفعون تلك الضرائب عن طيب خاطر وبدافع حبهم لوطنهم.
تحديد الهدف :
يفشل الإنسان في تحقيق الأهداف عادة بسبب تشتته وتعدد الأهداف المراد تحقيقها في ذات الوقت، تلك هي الحقيقة التي أقرها خبراء التنمية البشرية مؤخراً، والتي وعى لها قطز ومعاونيه قبل سبعمائة عام تقريباً، فقد كانت خطتهم تقتضي الخروج لمواجهة التتار خارج حدود مصر، وكان هذا سيتطلب منهم المرور بأكثر من مدينة واقعة تحت سيطرة الصليبيين، وبالضرورة ستجرى مواجهة بينهما، وحتى إن انتصروا فإن هذه المواجهات ستستنزف قوى الجيش، ولهذا كان الرأي أن يعقدوا هدنة مؤقتة مع الصليبيين، حتى يأمنوا مناوشات الصليبيين في عكا وحيفا، ولا يعد ذلك تخاذلاً أو تنازلاً عن المبادئ، إذ كان شرط الهدنة هو أن تكون مؤقتة، حتى يتمكن الجيش المسلم من التغلب على التتار، وبعد أن يفرغ منهم يعاود محاربته للصليبيين وتحرير الإمارات العربية منهم.