قاسم أمين هو المصلح الاجتماعي الأشهر في التاريخ المصري الحديث، يشتهر بانحيازه الدائم للمرأة ومناصرته لقضاياها ومناداته بحقوقها، وبعد مرور سنوات وسنوات ما زالت آرائه تثير الجدل، فـ قاسم أمين هو العدو الأول للأصوليين المحافظين، وبمثابة أب روحي ومثل أعلى لكل فرد بالمحدثين.
قاسم أمين .. من يكون ؟
وُلِد قاسم أمين في شهر ديسمبر لعام 1863م، ولده هو ضابط بالجيش من أصل تركي يدعى الأميرلاي محمد بك أمين، حظي قاسم أمين في طفولته بمستوى تعليمي جيد شأنه شأن كافة ابناء الطبقة الراقية، ثم التحق بكلية الحقوق وسافر لإتمام دراسته بجامعات فرنسا، ليعود إلى مصر قاضياً ومفكراً وأديباً ومحرراً للنساء من براثن مجتمع ذكوري مقيت.
أوروبا والإسلام :
تخرج قاسم أمين من مدرسة الحقوق في عام 1881م، والتحق بالعمل بمكتب مصطفى فهمي وقد كان من أكبر رجال المحاماة في ذلك الوقت، وفي تلك الفترة كان قاسم أمين حريص على حضور دروس جمال الدين الأفغاني، ومن خلال تردده على مجلسه تعرف بسعد زغلول وفتحي زغلول والشيخ محمد عبده وأديب إسحاق، وتأثر قاسم أمين بأفكار الأفغاني ومحمد عبده، التي تدعو إلى التجديد مع التمسك بثوابت العقيدة وشريعة الإسلام.. ثم سافر قاسم أمين إلى فرنسا ليتم دراسته للقانون بها، وهناك وجه نقداً لاذعاً للعديد من سلوكيات المجتمع الفرنسي ونمط الحياة السائد به، لكنه في الوقت ذاته لم يمكنه إنكار ما يتمتع به المواطن الفرنسي من مميزات يفتقدها العربي، وأولها حقه في حرية التعبير وإتاحة الفرصة له للمشاركة السياسية، وكان قاسم أمين يرى أن المرأة المصرية لا تقل في شيء عن نظيرتها الفرنسية، وأن التفاوت الرهيب بينهن السبب فيه إن الفرنسية حظيت بالتعليم الذي حُرِمت منه المصرية.
نظرته للمرأة :
أن الجدل الذي أحدثه قاسم أمين بكتابته في أروقة المجتمع، وحمله لواء تحرير المرأة ومطالبته بمنحها حقوقها المسلوبة لم يكن وليد لحظة عابرة، إنما كل ذلك كان نتاج تراكمات فكرية ومعرفية عديدة، ساهمت في تشكيل وعي قاسم أمين وخلق قناعته التي أعلنها للملأ فيما بعد، فقد كان يتعجب قاسم أمين دائماً من منع الآباء لبناتهن من تلقي العلم، وكان يرى أن الإسلام حين أوصى بالتعليم وركز على أهميته لم يفرق في ذلك بين الذكر والأنثى، والأمر الثاني الذي كان يثير تعجبه هو عدم قيام العلاقة الزوجية على أساس الاحترام المتبادل، حيث كان يرى أن العلاقة أشبه بعلاقة السيد والتابع أو بمعنى أدق الخادم، وكان يرى أن المجتمع لن ينصلح إلا بتعليم المرأة ورفع شأنها، حيث أنها هي من تخرج الأجيال وتشكل وعيهم كونها المسئول الأول عن تربية الابناء.
منهجه :
لا يمكن أبداً الفصل بين قاسم أمين والإمام محمد عبده، فقد تأثر قاسم أمين بشكل كبير برؤيته التنويرية وفكره الإصلاحي، وتتلمذ على يده وكان مثله يؤمن بإن الإصلاح الاجتماعي لا يمكن أن يتحقق إلا بالتروي وبشكل تدريجي، وإن المفاهيم التي ترسخت في العقول على مدار عقود طويلة واهم من يتصور أنه يمكن تغييرها بين ليلة وضحاها، ومن ثم كان يرى أن التربية هي أساس الإصلاح والأرض الصلبة التي يجب أن يقام عليها التغيير، وكان هدف قاسم أمين تشكيل وعي الجيل الجديد الصاعد بالبلاد، لينشأ على درجة عالية من الوعي والثقافة والاستنارة، تؤهله لحمل لواء التغيير والتمرد على الأفكار الجامدة المتشددة التي تراكمت داخل العقول على مر العقود.
المصريون :
أثناء إقامة قاسم أمين في العاصمة الفرنسية باريس قرأ كتاب باسم “مصر والمصريون”، وكان كاتب ذلك الكتاب هو دوق فرنسي يدعي “الدوق داركير”، وكان الكاتب قدأسهب في تشويه صورة الإسلام وتعاليمه وادعى عليه ما ليس فيه، وقال أن الدين الإسلامي يقلل من مكانة المرأة ويحط من قدرها، ودلل على ذلك بالواقع المأسوي الذي كانت تعانيه المرأة المصرية في ذلك الزمان، ويُقال أن قاسم أمين قد أرقده المرض نتيجة انفعاله الغاضب بعد قراءة ذلك الكتاب، ثم قرر أن يكون إيجابياً وألا يقف مكتوف الأيدي أمام هذا التشويه سواء كان متعمداً أو نابع من جهل، فقام في عام 1894م بنشر أول كتبه وكان باللغة الفرنسية وبعنوان “المصريون“، والذي قام من خلاله بالرد على كافة ادعاءات الدوق داركير المجحفة، وبرأ ساحة الإسلام وشريعته من اضطهاد المرأة المزعوم، وأثناء تأليفه لكتابه لم يمكنه إنكار مواطن الضعف السياسي والعوار الاجتماعي الذي كانت تعاني منه مصر آنذاك، ورأى أن تعاليم الدين الصحيحة كفيلة بدفعنا للتقدم على الحضارة الأوروبية، بينما العادات والتقاليد والأفكار الجامدة الموروثة هي دافعنا للتخلف عنهم.
تحرير المرأة :
تحرير المرأة ليس مجرد عنوان كتاب قاسم أمين الأول باللغة العربية، بل هو الغاية والهدف الذي وهب لتحقيقه الجزء الأكبر من حياته، وبعد خمس أعوام من إنتاج لكتاب المصريون وتحديداً في عام 1899م، قام قاسم أمين بإصدار كتاب تحرير المرأة باللغة العربية، ثائراً من خلاله على المجتمع الذي استمات في الدفاع عنه بكتابه السابق، جاعلاً من وضع المرأة وحقوقها المسلوبة محوراً وأساساً له، مدللاً على أقواله بالأدلة الشرعية والفقهية والتصوص القرآنية، وقد تسبب ذلك الكتاب فور طرحه في إثارة جدل واسع في الشارع المصري، وقام الكثيرون بإعلام الحرب ضد قاسم أمين متهمين أياه بالدعوة إلى الفسق والانحلال، ونشر أنصار الفكر المحافظ العديد من المقالات المهاجمة وكتبوا كتباً كاملة للرد على قاسم أمين ،ومن هؤلاء مصطفى صبري ومحمد حسنين البولاقي ومصطفى الغلايني وعبد الرحمن الحمصي، لكن هذه الحرب الشعواء التي شنها أنصار الظلام على قاسم أمين زادته إصراراً، وطيلة عامين دأب على جمع كل كلمة كتبت تعقيباً على ما أورده بكتابه تحرير المرأة، ليرد عليها من خلال كتابه التالي “المرأة الجديدة” الذي أصدره في 1901م، والذي واصل فيه دفاعه عن المرأة ومطالبته بمنحها حقها في التعليم والعمل وتحقيق الذات، رافضاً وصف دعوته بالدعوة إلى الانحلال الأخلاقي، مؤكداً على أن الدين الإسلامي قد وهب المرأة حريتها وسلبتها منها العادات والتقاليد.
دعواته واهتماماته :
حقوق المرأة كانت الشاغل الأول والدائم لـ قاسم أمين ،لكن هذا لا يعني أنه لم يكن مهتماً ومهموماً بالعديد من القضايا الأخرى، فقد كان قاسم أمين ممن دعوا ونادوا بإنشاء الجامعة المصرية وتطوير العملية التعليمية بالبلاد، معتبراً التعليم أساساً للارتقاء بالمجتمعات وبناء الأوطان، كما عُرف عن قاسم أمين اهتماماته الأدبية وقد خاض عدة تجارب أدبية بالفعل، لاقت استحسان من عاصروه من قامات فكرية وأدبية وفنية عظيمة، ودعا قاسم أمين إلى تحرير اللغة العربية من التقيد بالسجع وبعض القواعد، إلا أنه لم يجد من يتفق معه في ذلك وبالتالي تم وأد فكرته في مهدها.
وفاته :
في يوم 23 أبريل من عام 1908م توفى قاسم أمين، الذي شكل موته المفاجئ صدمة للمقربين منه ولكل مؤمن بدعوته، وللوسط الثقافي المصري بوجه عام ، وقد كان عمره حين فارق الحياة 45 عاماً، وتقدم مشيعي جنازته الزعيم المصري وصديق عمره سعد زغلول، ويُقال أن كل من رآه في ذلك اليوم بكى تأثراً وإشفاقاً، كما نظم عدد من كبار الشعراء قصائد شعرية لرثاء قاسم أمين ،مثل الشعراء علي الجارم وحافظ إبراهيم وخليل مطران.