محمد بيومي ووفقاً للإثباتات التاريخية هو رائد السينما في مصر والعالم العربي، مصر التي يرجع تاريخ علاقتها بالسينما إلى تاريخ بداية السينما نفسها.. لعل هذا يكون صعب التصديق في ظل ما نشاهده اليوم من ابتذال وإسفاف وانحطاط، لكن هذه هي الحقيقة التي لا أعلم إن كانت تدعو للفخر أم تدعو للحسرة!.. فأول فيلم سينمائي يعرض تجارياً كان بالعاصمة الفرنسية باريس في ديسمبر من عام 1895م، وبعد أقل من شهر وتحديداً في يناير 1896م كان العرض الثاني بمدينة الإسكندرية المصرية، والعرض الثاني بمصر والثالث بالتاريخ كان بالقاهرة، ورابع عرض سينمائي أيضاً كان مصرياً وشهدته مدينة بورسعيد، وكان العرض لفيلم فرنسي صامت للأخوة “لوميير”.
محمد بيومي الحق الضائع والتراث المفقود :
الاعتقاد الشائع أن المخرج محمد كريم هو رائدها، وإنه تولى انتاج وإخراج أول فيلم مصري في عام 1930م، وللأسف أكثر الكتب التي تناولت التاريخ السينمائي المصري تؤكد ذلك (الخطأ)، وتغفل اسم الرائد الحقيقي للفن السينمائي المصري، العبقري ” محمد بيومي “.
طفولة محمد بيومي :
وُلد محمد بيومي يوم 3 يناير 1894م بمدينة طنطا بمحافظة الغربية، وكان والده تاجراً، وكان يهوى الرسم، ونزل إلى ميادين العمل في العطلات الصيفية وعمل بإصلاح الساعات، فتمكن من اقتناء كاميرا فوتوغرافية وكان امتلاك واحدة في ذاك الزمان من عجائب الأمور.. أحب محمد بيومي الكاميرا، وعشق تصوير الوجوه، ورأى أن ما تقوله الصورة أبلغ من الكلام، ورأى أن الصورة المتحركة أقدر على التبليغ من الجامدة.. لكن كيف تتحرك الصورة؟!
تخرج محمد بيومي من المدرسة الحربية عام 1915م، وتم إلحاقه بإحدى كتائب الجيش المصري بالسودان، لكن كل ذلك لم ينسه حلمه القديم، فقرر أن يستقيل من عمله بالجيش وأن يسافر ليتعلم فنون السينما، وبالفعل بدأ رحلته من إيطاليا، ثم انتقل إلى النمسا وبها التقى بزوجته السيدة شارلوت كرالوفيتس، ثم انتقلا معاً إلى برلين وأكمل دراسته بجانب عمله كمساعد مصور، وفي عام 1922م قرر العودة إلى الوطن ومعه أول معدات تصوير سينمائي تعبر الحدود المصرية.
جريدة آمون السينمائية :
كما قام بإصدار”آمون السينمائية” وهي أول جريدة مصرية وثائقية ، وكان يحلم بأن يصل بها إلى العالم لتكون بوقاً ضد الاحتلال، ولذلك خصص أول أعدادها لتسجيل لحظة وصول الزعيم سعد زغلول ورفاقه من منفى سيشل في عام 1923م، وكانت مدة الفيلم 5 دقائق، ويعد هذا الفيلم التسجيلي أول شريط سينما مصري خالص.
أول فيلم روائي :
بميزانية بلغت مائة جنيهاً قام بيومي بتنفيذ أول فيلم روائي مصري، وكان بعنوان “برسوم يبحث عن وظيفه”، ولعب فيه دور البطولة بشارة واكيم وشاركته فيكتوريا كوهين وفردوس حسن، وكانت مدة الفيلم حوالي 12 دقيقة.
أول شركة إنتاج مصرية :
كما كان لبيومي الفضل في إنشاء أول شركة مصرية لإنتاج الأفلام، حيث أنه خلال تصويره لفيلم تسجيلي عن مراحل تأسيس بنك مصر الجديد عام 1925م التقى بطلعت باشا حرب، وأقنعه بفكرة إنشاء شركة سينما باسم “مصر للسينما”، وفي العام نفسه نفذ المشروع باسم “مصر للتمثيل والسينما”، وتم تعيين محمد بيومي مديراً له، لكنه استقال منها في وقت لاحق بسبب خلاف وقع بينه وبين طلعت باشا حرب.. ثم تولى محمد بيومي تأسيس “المعهد المصري للسينما” عام 1931م، ومن خلاله قام بيومي بتقديم أول فيلم “الخطيب رقم 13” والذي يعد أول فيلم مصري متكامل.
منهجه العملي :
محمد بيومي كتب السيناريو لجميع الأفلام التي قدمها باستثناء فيلم “الضحية”، وكان يقوم بالتصوير والإخراج، وكذلك عمليات الطبع والتحميض، وتصميم الديكور والمونتاج، وهذا كله بجانب تجسيده لشخصية ضمن احداث الفيلم، وهذا لندرة العاملين بالمجال السينمائي بالإضافة إلى أنه حرص على دراسة كافة فروع فن السينما وأجادها.. ورحل رائد صناعة الفن السينمائي عن عالمنا في يوليو 1936م، وقام المخرج والباحث السينمائي “محمد كامل القليوبي” بكتابة كتاب يتحدث عن حياته واسهاماته في تأسيس السينما المصرية، بعنوان “محمد بيومي.. الرائد الأول للسينما المصرية”، كما تصدر اسمه -أخيراً- مسابقة الأفلام القصيرة لمبدعي الإسكندرية لعام 2014م.
تراث محمد بيومي ..أين؟
ترك محمد بيومي لنا كنوزاً لا نعلم من بددها، فبجانب أفلامه الروائية التي لم يبق منها سوى أجزاء مقتطعة وأشرطة مهترئة، فإنه قد أولى اهتماماً كبيراً بالأفلام التسجيلية، وسجل بكاميرته لحظات فريدة من عمر الوطن، مثل حفل الألعاب الرياضية الذي أقامه الحرس الملكي، جنازة السير لي ستاك حاكم السودان، حفل افتتاح مبارة كرة القدم بين المنتخب القاهري وفريق هاكوا، ومشهد خروج الجماهير لتوديع الوفد الذاهب للتفاوض باسم مصر برئاسة النحاس باشا، وغيرها من الكنوز الثمينة التي أضاعتها يد الإهمال.