عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يعد عصره من أزهى وأهم عصور الحضارة الإسلامية، ليس فقط لأنه حقق العدل وحرص على تطبيق الشريعة، بل لأن اجتهاده أوصله إلى حلول لعدد كبير من القضايا العامة والهامة، والتي بعضها لا يزال محل جدال ودراسة حتى يومنا هذا،الأمر الذي دفع البعض إلى القول بأن عمر بن الخطاب هو أول من وضع أسس إقامة الدول الحديثة، فأن المقومات الحضارية التي تقوم عليها المجتمعات الغربية وتتفاخر بها حالياً، كان منشأها بلاد المسلمين في زمن ثاني الخلفاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
عمر بن الخطاب ومؤسسات الدولة :
أحدث عمر بن الخطاب عند توليه أمر المسلمين طفرة في نظام إدارة الدولة، وحولها من دولة الإدارة المركزية إلى دولة مؤسسات، ومن ثم قام بتوزيع السلطات على أجهزتها المختصة المختلفة، ومن بين الأمور التي استحدثها عمر بن الخطاب والتي ساهمت في نهضة بلاد الإسلام في زمنه ما يلي :
الحسبة :
اختلف المؤرخون حول العصر الذي ظهرت به مجموعة الحسبة لأول مرة، فمنهم من أرجعه إلى زمن الرسول عليه الصلاة والسلام، وفريق آخر يؤكد أنها لم تظهر إلا خلال زمن خلافة عمر بن الخطاب ،لكن الأمر المؤكد والمتفق عليه بين الفريقين، هو أن عمر بن الخطاب دأب على تطويرها ومنحها المزيد من الصلاحيات والاختصاصات، وأولى عمر الحسبة اهتماماً بالغاً حتى أنه في أول الأمر تولى الإشراف عليها بنفسه، ثم في وقت لاحق أوكل إدارتها إلى أحد الرجال الموثوق بهم.. وكانت الحسبة في بداية الأمر أشبه بالمؤسسة الدينية المسئولة عن إقامة الشريعة الإسلامية، وكان قائدها الحامل للقب المحتسب، مسئول عن إقامة الشعائر الدينية الإسلامية ومتابعة مفسري القرآن..
ثم عمل عمر بن الخطاب على تطويرها ومنحها صلاحيات أوسع تحقق منفعة عامة أكبر، إذ أصبح المحتسب مسئول عن مراقبة الأسواق في البلاد الإسلامية، يفتش عن البضائع الفاسدة فيعدمها ويحاسب من يتاجر بها، وكذا بات مسئولاً عن المكاييل والموازين في الأسواق، أي أن الحسبة باتت جهاز مدني أشبه بجهاز حماية المستهلك في زمننا الحالي.
العدالة الاجتماعية :
آمن عمر بن الخطاب بمبدأ العدالة الاجتماعية وسعي إلى تحقيقه، بل أنه خصص ديوان كامل لذلك الأمر وحده، أطلق عليه اسم ديوان العطاء الذي يتشابه دوره مع الدور الذي تلعبه وزارة الشئون الاجتماعية حالياً، حيث كلف عمر بن الخطاب القائم على هذا الديوان بدراسة القدرة المادية لكل فرد بالمجتمع، ومن ثم تخصيص مبلغ مالي يصرف له شهرياً، يكون كافياً لتوفير مقومات الحياة الآدمية الكريم.. في ذات السياق حرص عمر بن الخطاب على مشاركة ابناء الدولة الإسلامية معاناتهم، فكلف ديوان العطاء بمنح 100 درهماً لكل طفل يولد، يتم مضاعفتها لتصبح 200 درهماً حين يبلغ الطفل أشده، وبالطبع هذه المخصصات الشهرية كانت مقتصرة على كبار السن وغير القادرين على العمل.
النظام التأديبي :
النظام التأديبي أو الإصلاحي هو أيضاً من ضمن الإنجازات التي تنسب إلى عمر بن الخطاب ،فوفقاً لما ورد إلينا فأن الجزيرة العربية لم تعرف السجون قبل عصره، إنما كان يتم عزل المذنب فقط بركن ملحق بالمسجد الرئيسي، ثم جاء زمن خلافة عمر بن الخطاب ليضع أسس الأنظمة التأديبية المعمول بها حتى اليوم، حيث قام بإنشاء بناء مستقل خاص باحتجاز وعجز المذنبون، وأطلق على هذا البناء اسم السجن ليكون أول السجون التي يعرفها العرب، ولم يكن الهدف من ذلك عزل المذنب عن المجتمع أو إذلاله والتحقير منه، بل كان الغرض الأساسي من إنشاء السجن هو إعادة تأهيل المذنب ورده إلى استقامته مرة أخرى.
نظام التقاضي :
“العدل أساس الملك” هي القاعدة التي أسس عمر بن الخطاب عليها دولته، ففي باديء الأمر كان النظر في خلافات الرعية وقضاياهم من اختصاصات الخليفة، ومع اتساع الدولة منح هذا الاختصاص لكل والي على ولايته، ومع الوقت خشي عمر من أن يخل الولاة بواجباتهم تجاه الرعية لانشغالهم بأمرو القضاء، وهنا اتخذ قراراً بفصل القضاء عن الخلافة وجعله سلطة مستقلة ذات سيادة.
العسس :
منذ عهد الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام وحتى عصر عمر بن الخطاب ،لم يهتم خلفاء المسلمين وولاة أمرهم إلا بقوات الجيش، وذلك بسبب الاستهداف الدائم للدولة الإسلامية من قبل القوى العظمى بذلك الزمان، ثم شهدت المنظومة الأمنية تطوراً عظيماً بحلول زمن عمر بن الخطاب ،إذ لم يشغله التأمين الخارجي والحدودي عن تأمين البلاد من الداخل، ولم يلهه صد العدوان الخارجي عن الاهتمام بالأحوال الأمنية على الصعيد الداخلي، فقام عمر بن الخطاب بإنشاء جماعة العسس، وتعتبر جماعة العسس هذه النواة الأولية لمنظومة الشرطة التي نعاصرها في زمننا هذا، إذ كان قائد العسس هو المسئول عن الانضباط الداخلي وتحقيق الأمن، وكان ينشر رجاله في شوارع المدن خلال ساعات الليل، بهدف تأمينها وكذا تقصي الحقائق وجمع التحريات والمعلومات، وكان الصحابي عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أول قائد لفرق العسس.
الدواوين :
قبل تولي عمر بن الخطاب خلافة الأمة الإسلامية، كان الخليفة هو المسئول الأول والأوحد عن إدارة الشئون الدولة بمختلف مجالاتها، ولكن نتيجة الفتوحات الإسلامية في زمن عمر بن الخطاب اتسعت مساحة الدولة الإسلامية، ونتيجة لذلك تضاعف عدد الرعية عدة مرات، وبات من الصعب أن يدير رجل واحد شئون هذا العدد الهائل من البشر، فقرر عمر بن الخطاب إرساء مباديء أسلوب اللامركزية الإداري، وقام بتوزيع المهام على عدد من الرجال يتولى هو الإشراف عليهم، وبذلك أنشأ الدواوين وهي نظام يتشابه كثيراً مع نظام الوزارات في زمننا الحالي، فكان هنا ديوان الجند الذي يعادل وزارة الدفاع حالياً، حيث كان هذا الديوان هو المعني بأمور الجيش والقوات العسكرية، وكذا ديوان الخزانة وهو المسئول عن قيد المصروفات واحتساب واردات الدولة… ألخ.
الخطة الاقتصادية :
لم تشهد دولة الإسلام ازدهاراً زراعياً كالذي شهدته في زمن خلافة عمر بن الخطاب ،إذ أنه أدرك أن قوة الدولة الحقيقية تعتمد على قوة اقتصادها، وأن الاقتصاد القوي لن يتأتى إلا من خلال الاهتمام بالمجال الزراعي، فهي تشكل مصدر الغذاء الرئيسي لأي مجتمع، وفي الوقت ذاته منها تُستمد المواد الخام اللازمة للمجال الصناعي، وكي يحث عمر بن الخطاب رعيته على العمل بالزراعة ومضاعفة إنتاجهم، أصدر قراراً بأن من يقوم باستصلاح أرضاً بالدولة الإسلامية تصير ملكاً له، وكذلك اهتم بإقامة السدود كي لا تغرق المزروعات في مواسم الفيضان، وكذلك عمد إلى شق الترع لإيصال مياه الري إلى المناطق التي لا يتوفر بها مصادر للماء العذب، وذلك لاستصلاح الأراضي بهذه المناطق وتسهيل زراعتها.
التقوييم الهجري :
قبل زمن عمر بن الخطاب كانت العقود والوثائق يُكتب بها اسم الشهر فقط، وحين عُرضت إحدى الوثائق على أمير المؤمنين وجدها مؤرخة بـ”شعبان”، فأستوقفه الأمر وسأل الصحابة كيف نعلم إن كان المقصود شهر شعبان الحالي أم الماضي؟، ومن هنا كانت بداية وضع التقوييم الذي يمكن من خلاله تيسير المعاملات وإبرام العقود بشكل صحيح، فاستشار الصحابة في الأمر فمنهم من قال نبدأ التأريخ من مولد النبي عليه الصلاة والسلام، وآخر قال نبدأ التأريخ من العام الذي بُعث فيه الرسول، وقال ثالث بأن يكون مرجع التأريخ العام الذي هاجر فيه الرسول من مكة إلى المدينة، فاستحسن عمر بن الخطاب هذا القول وأقره، وقرر أن يكون شهر محرم هو الشهر الأول بالسنة وفقاً للتقويم الهجري الذي استحدثه.