علم الكلام حسب التعريف الذي أورده سعد الدين التفتزاني، فأنه ذلك العلم الذي يختص بالأتيان بالأدلة اليقينية، الدالة على حقيقة وصدق العقائد الإيمانية والدينية، أما عضد الدين الإيجي فقد عرفه بصياغة أخرى لا يختلف مضمونها عن التعريف الآخر، إذ قال بأن علم الكلام هو ذلك العلم القادر على إثبات العقيدة الدينية، من خلال المجيء بالحجج الكفيلة بدفع الشبهات عنها، والفارابي وهو من الفلاسفة المسلمين أورد بكتبه تفسيراً آخر لـ علم الكلام ،فقد اعتبره ملكة أو صنعة يمتاز بها بعض البشر، وبموجبها يمكنهم نصر الآراء والقيام بالمناقشات لإثبات صحة معتقداتهم والأتيان بما يبرهن عليها.. ويعتبر علم الكلام من العلوم التي تم استحداثها بعد وفاة النبي عليه الصلاة والسلام، ويُقال أن الصحابة والتابعين هم أول من اشتغلوا به، فيما بعض الآراء تقول بأن أصوله ترجع إلى زمن بعض الخلفاء وتحديداً عمر بن عبد العزيز، لكن أيا كان الزمن الذي ظهر فيه علم المعاني ،ترى ما الأسباب التي قادت إلى ذلك الظهور؟ وما الأهداف المراد تحقيقها من خلال العمل به؟
علم الكلام والهدف منه :
الحاجة هي أم الاختراع تلك واحدة من القواعد الأكثر شيوعاً، والتي كانت سبباً في ظهور عدد غير قليل من الابتكارات والاختراعات، ولكنها في بعض الحالات كانت سبباً أيضاً لظهور بعض العلوم، ومن بينها علم الكلام موضوعنا هنا، فبعض أن انتشرت ألسنة البشر المتحدثة بكلام الشيطان، كان لابد من تكوين جماعات أو فرق كلامية للرد عليها، وكانت تلك هي الركيزة الأولى التي قام عليها علم الكلام ،وتم الاشتغال به في باديء الأمر فقط من أجلها، ولكن مع الوقت تطور ذلك العلم وتعددت غايته وأهدافه، وتنقسم في مُجملها إلى غايات رئيسية وأخرى فرعية، ولكن قبل التطرق إلى كلا النوعين، لابد في البداية من التعرف على الأسانيد التي يعتمد عليها علم الكلام ، ومنها يستمد حججه وبالتالي يحقيق غاياته.
أسس علم الكلام :
وفقاً لما ورد بالكتب المختصة بـ علم الكلام ومشتقاته، فأن أساتذته يقرون بأنهم يعتمدون على نوعين من الأدلة، للأتيان بالبراهين المثبتة لصدق العقائد التي يدافعون عنها، وتلك الأدلة تنقسم إلى الأدلة العقلية والأدلة النقلية :
- الأدلة العقلية : وهي تتشابه كثيراً مع مبدأ التأمل والذي أمرنا الله بممارسته، حيث يحث علم الكلام عوام الناس على النظر في العالم الخارجي، ومن ثم إعمال العقل والتدبر فيما يمكن أن يكون وما يستحيل أن يحدث، وأهل السنة اتفقوا جميعاً على أن العقل قد يكون سبيلاً لمعرفة بعض الأحكام العقائدية.
- الأدلة النقلية : ويُقصد بها الأتيان بالنصوص المثبتة لصحة الأمر الخاضع للنقاش، وهي تستمد من نصوص القرآن وكذا من الأحاديث النبوية.
غايات علم الكلام الرئيسية :
الغايات الرئيسية لـ علم الكلام ،والتي كان يبتغيها أوائل من اهتموا به واعتمدوا عليه هي :
علم الكلام وسيلة دفاعية :
من أوائل الأسباب التي دفعت إلى إنشاء علم الكلام ،هو الدفاع عن العقيدة وصد العدوان المعرضة له والرد على المشككون بها، ويعد ذلك الدفاع هو الغاية الأساسية المبتغاه من علم الكلام ، وفي ذات الوقت حماية إيمان من آمنوا بدين الله، ومنع الشكوك الخبيثة من التسلل إلى صدورهم من خلال الرد عليها، وتوضيح الإشكالات ورد الشبهات والإجابة على الأسئلة التي تفتح أبواب الفتنة، ولا تزال تلك الفائدة العائدة من علم الكلام ،تتحقق إلى ذلك اليوم على يد المشتغلين به، وإن كانوا لا يصنفوا أنفسهم كمشتغلين بـ علم الكلام بصورة مباشرة، لكن ذلك العلم بالغ الضرورة بالنسبة للمشايخ والأئمة والدعاة وكل متحدث بأمور الدين، حيث أنه لا يوجد عصر خال من المشككين والمتآمرين على الدين وصحيحه.
علم الكلام نبراس تنويري :
بعد فترة من ظهور علم الكلام والعمل به للرد على مشوهي حقيقة الدين، أراد المتكلمون اتخاذ خطوة للأمام يتقدمون بها على خصومهم، يمكن القول بأنهم عملوا بالقاعدة القائلة بأن الهجوم هو الوسيلة الأمثل للدفاع، أو أن الوقاية من باديء الأمر أفضل كثيراً من الاضطرار للعلاج، ومن ثم اتخذوا من علم الكلام منبراً لنشر الوعي والحقيقية، وبدلاً من أن يوضحوا الحقائق التي يحاول من في نفوسهم مرض تشويهها، عملوا على إيضاحها من البداية وشرح أحكام الشريعة الإسلامية، وتفسير آيات القرآن الكريم وتأويلها وتبسيط مضامينها ومعاينها للعامة، ووجدوا في ذلك سبيلاً لتحصين نفوسهم وإيمانهم، فزيادة رصيدهم من العلم يخفض بالضرورة من احتمالات التأثير عليهم، ويصبح من الصعب بل من المستحيل أن يتزعزع إيمانهم، وتشكيكهم في دين الله الحق وشريعته وأحكامه.
ثانياً : غايات علم الكلام الفرعية :
بالفائدتين المتمثلتين في الدفاع والتنوير، نكون قد خلصنا من الغايتين الأساسيتين من الاشتغال بـ علم الكلام ،ولكن من خلال السعي وراء تحقيقهما، تكشفت للعلماء فوائد أخرى يمكن أن تُنال من خلال العلم ذاته، وتصنيفها كفرعية لا يقصد به أبداً التقليل منها، وحين نستعرضها سندرك ذلك ونتفهم مدى أهميتها وهي :
علم الكلام والارتقاء بالمسلم :
هذه الفائدة من فوائد علم الكلام تعد فرعية، فقط لأنها تأتي مترتبة عن الفائدة الثانية وهي التنوير، فـ علم الكلام يعتمد أساساً على الإتيان بالحجج الجلية، والأدلة القاطعة التي تسد الطرق على التشكيك والمشككين، ومن ثم فأن النظر في علم الكلام والاطلاع عليه، يساهم في تنوير المسلم وترسيخ إيمانه بالعقيدة، وذلك من خلال مطالعته على الحجج التي تثبت كثير من الأمور الدينية، مثل التوحيد وصفات الله والإمامة والنبوة، بل ويمتد علم الكلام ليشمل بحججه كافة القضايا مثل القيم الممثلة في العدل والخير والصدق، وكذلك يبرهن على صدق الدار الآخرة وكافة المسائل الاعتقادية الأخرى.
علم الكلام والترغيب والترهيب :
الرسول عليه الصلاة والسلام بوصف القرآن الكريم جاء مبشراً ونذيرا، و علم الكلام يعنى بمجيء الأدلة والبراهين المثبتة لصدق ما بشر به وما أنذر منه، وإن كان قوله صلى الله عليه وسلم يترفع عن التشكيك ولا يحتاج لإثبات، لكن علم الكلام والمشتغلين به اهتموا بنظرية الثواب والعقاب، واهتموا بمعرفة الله والتعريف بكونه المجازي والمثيب، ومن علم الكلام يتعرف الإنسان على عاقبة أفعاله بالدنيا، وكيف ستنعكس عليه في الحياة الأبدية بعد الحساب بالآخرة، ويرغبون الناس في التقرب إلى الله من خلال اتباع الأعمال الصالحة وتجنب السيئات، ليس خوفاً من العذاب إنما سعياً وراء تحقيق السعادة الأبدية.
إرشاد طالب الهداية :
هي غاية أخرى فرعية لـ علم الكلام ، وهي تأتي هنا مشتقة عن الغاية الأساسية الأولى وهي الدفاع، فمن خلال سعي المشتغلين بـ علم الكلام لرد الهجوم والتشكيك والعدوان، كان عليهم أن إظهار الحجج وتبينها وبلورتها للعامة، وبعد أن تم إحصاء تلك الحجج كتابة وتضمينها للكتب والمجلدات، صارت تلك الكتب مراجع يعتمد عليها الدعاة حتى اليوم، إذ أن تلك الحجج من فرط وضحها تفحم كل معاند، وترد الشبهة وتطرد الضلال فتدفعه إلى الإيمان، إذ أنه لا تبقى له حجة أمام الله بحسب قول أساتذة علم الكلام ،إذ أنه لا يمكن بعد علمه بذلك الحق أن ينكره أو يدعي جهله به، وبالتالي فأن كل طالب للهدى يجد في علم الكلام ما يثبت يقينه ويرسخ اعتقاده ويسترشد به للهداية.