مدينة الإسكندرية المتألقة على الشطآن الشمالية للجمهورية المصرية، هي واحدة من أكثر المدن التاريخية أهمية وشهرة، ولا يقصد هنا التاريخ المصري فقط بل التاريخ الإنساني على إطلاقه، وذلك لأن اسم مدينة الإسكندرية ارتبط ارتباطاً وثيقاً بالعديد من الأحداث التاريخية الهامة، كما تعرف الإسكندرية بأنها ملتقى الحضارات المتباينة ومَجمَع الديانات المختلفة، واحتضنت على مر عصورها شتى الأطياف ومر بها وعليها أغلب شعوب الأرض، واستحقت أن تحظى دون غيرها بقلب عروس البحر المتوسط وتنفرد به، يرى البعض أنها اكتسبته بفعل عراقتها أو بفضل حضارتها أو إجلالاً لتاريخها الطويل، لكن الواقع أنها استحقت اللقب بسبب طبيعتها الفريدة التي نتجت عن اجتماع كل هذه العوامل، وأولها موقعها فريد الخصائص الذي تخيره الإسكندر لأسباب عديدة ليشيد فوقه المدينة الأبية.
فكرة إنشاء مدينة الإسكندرية :
في نهايات عام 332 ق.م تقريباً حطت جيوش الإسكندر المقدوني (الإسكندر الأكبر) على أرض مصر، وبينما كان يتحرك على رأس جيش بمحاذاة البحر، وقع بصره على قطعة أرض يابسة فاصلة بين بحيرة مريوط من جهة والبحر المتوسط من الجهة الأخرى، وأعجب بموقع هذه القطعة من الأرض، وبات ليالي عديدة يفكر في إنشاء مدينة عظمى عليها، على أن يتم بناؤها على أحدث الطرازات المعمارية المعروفة في ذاك الزمان، بعد أن يتم الوصل بينها وبين السواحل المصرية، ومن هنا كان ميلاد مدينة الإسكندرية التي كان للإسكندر الأكبر الفضل في وجودها.. الطريف أن الإسكندر بعد أن شهد التخطيط الأولي لـ مدينة الإسكندرية ،قاد جيشه إلى خارج حدود مصر مستكملاً الفتوحات، ولم يمهله القدر فرصة العودة إليها مرة أخرى حياً، ليرحل بذلك عن عالمنا دون أن يرى مدينة الإسكندرية التي اشتق اسمها من اسمه، والتي صارت فيما بعد واحدة من آيات الحضارة الإنسانية، ونافذة مصر المطلة على العالم وبوابة العالم إلى الحضارة المصرية.
خواص مدينة الإسكندرية الفريدة :
ما أن اكتملت فكرة بناء مدينة الإسكندرية بعقل الإسكندر الأكبر، حتى استدعى أكبر مهندسيه المعماريين ويدعى دينوقراطيس، وعهد إليه بتصميم مدينة الإسكندرية الجديدة والإشراف على تنفيذها، وكان دينوقراطيس معروف بمهاراته وفكره المتطور المجدد، وقد أولع بشدة بالموقع الذي تخيره الإسكندر الأكبر، ومن ثم قرر أن تكون مدينة الإسكندرية التي ستقام فوقه نموذجية، تضاهي في روعتها أكبر مدن العالم في زمنه وتتفوق عليهم، وأخضع هذا المسطح المقترح للفحص كاشفاً عما يتميز به من خواص فريدة، وجعل من تلك الخواص أساساً لخطة التصميم والبناء، وكان مميزات موقع مدينة الإسكندرية وفقاً لرؤية دينوقراطيس كالآتي:
الماء العذب :
الماء هو منبت العشب وكذلك مُنبِت الحضارة، فإقامة أي مجتمع حضري تعتمد أساساً على توفير مصدر أو أكثر للماء، وبديهياً كان ذلك أول أمر ينشغل به عقل مهندس بمكانة دينوقراطيس، ووجد حل المعضلة متوفراً في أحد فروع نهر النيل، وهو ما كان يُعرف باسم فرع النيل الكانوبي أو الفرع الهيراكليوتي، والذي يمكن من خلاله إمداد مجتمع مدينة الإسكندرية بما يحتاجه من ماء، وقد اندثر هذا الفرع في زمننا الحالي ولم يعد له أثر، وكان يمر في الماضي بضاحية أبو قير الواقعة بشرق مدينة الإسكندرية
ميناء عالمي :
موقع مدينة الإسكندرية يعد بمثابة نقطة فريدة ضمن موقع أكثر تفرداً، فموقع مصر عند أقصى شمال القارة السمراء، المتوسط لمختلف قارات العالم المعروفة حالياً والمعروفة آنذاك، جعل منها محط أنذار العالم وملتقى حضاراته وطرق التجارة العالمية، أما الإسكندرية فقد كانت تتصدر الواجهة الشمالية للأراضي المصرية، مطلة على سواحلها الشمالية المتمثلة في البحر الأبيض المتوسط، ومن ثم رأى المهندس دينوقراطيش أن مدينة الإسكندرية فرصة لإقامة ميناء تجاري عالمي، وطرح الفكرة على الإسكندر الأكبر الذي أبدى إعجابه بالأمر ووافقه عليه، معطياً بذلك الإذن بإنشاء أول موانيء مدينة الإسكندرية في التاريخ، وقد كان مقرراً إنشائه بالجهة الشرقية بناحية منطقة أبي قير، لكن في النهاية بعد تخطيط المدينة تم إنشاء أكثر من ميناء.
جبهة دفاعية :
موقع مدينة الإسكندرية فرض عليها أن تكون بوابة انفتاح مصر على الحضارات، ولكنه في الآن نفسه فرض عليها أن تكون باباً موصداً أمام غزاتها، فوجود مدينة الإسكندرية عند أول نقطة حدودية من جهة الشمال، جعل منها موقع عسكري مثالي صالح لبناء تحصينات أمامية منيعة، ويؤكد المؤرخون أن فكرة جعل مدينة الإسكندرية حصن دفاعي عن الأراضي المصرية، كانت رؤية الإسكندر باعتباره قائد عسكري لا يشق له غبار وليست فكرة مهندسه دينوقراطيس، وكانت رؤيته لتحصين مدينة الإسكندرية رؤية مزدوجة، تنقسم إلى قسمين رئيسيين هما تحصين عام للبلاد وتحصين ذاتي لـ مدينة الإسكندرية نفسها.
- التحصين العام : كان يقصد به بناء تحصينات عسكرية عامة وتقليدية، كالتي يتم إقامتها بكافة المدن الحدودية بغض النظر عن طبيعتها الجغرافية، وأراد الإسكندر الأكبر لتلك التحصينات القيام بدورين عسكريين، أولهما مراقبة المسطح المائي وكشف أي سفن معادية تتقدم باتجاه حدود البلاد، وفي الوقت نفسه تكون مشتملة على معدات وتسليح يكفي لردع ذلك الهجوم المحتمل، وتحصينات مدينة الإسكندرية تلك كانت جميعها صناعية، أي من ابتداع البشر اعتماداً فقط على الموقع الجغرافي.
- القلعة : تعد القلاع أبرز قطع التحصينات في استراتيجيات الحروب القديمة، ووجد الإسكندر في الجزيرة الواقعة بوسط البحر موقعاً مثالياً لتدشين قلعته، حيث كانت جزيرة فاروس الصغيرة تبعد عن اليابسة المقررة لبناء مدينة الإسكندرية مسافة ميل واحد، فرأى أن يتم ردم المساحة الفارغة الفاصلة بين الجزيرة وبداية اليابسة، وأن تكون تلك المنطقة الموصولة بينهما جزءاً من مدينة الإسكندرية الجديدة.
- التحصين الذاتي : على عكس التحصينات السابقة ذلك التحصين كان طبيعياً، حيث أن الطبيعة الجغرافية لمدينة الإسكندرية جعلتها منغلقة على ذاتها، حيث البحر يحدها من جهة الشمال ومن الجنوب تمر بحيرة مريوط، مما جعل من كلاهما موانع مائية تحد مدينة الإسكندرية من الجهتين، وتعيق أي محاولة لاقتحامها من قبل أي معاديين.
اكمل الى الجزء الثاني : لماذا مدينة الإسكندرية عروس البحر 2 ؟
من هو دينوقراطيس ؟
حياة دينوقراطيس قبل عام 331 ق.م تتسم بكثير من الغموض، حيث لم ينتبه إليه المؤرخون إلا بعد ذلك العام المشهود، الذي ارتبط فيه اسمه باسم عروس البحر المتوسط مدينة الإسكندرية ،فليس هناك ملامح واضحة عن نشأته أو عن حياته الشخصية، لكن الأمر المؤكد أنه كان من أبرع مهندسي الأغريق، وأن له إسهامات معمارية عديدة فيما شيدته الحضارة الإغريقية وخلفته من تحف معمارية، وهو ما أهله ليكون أحد أهم مستشاري القائد الإسكندر المقدوني، الذي حرص على اصطحابه معه ضمن حاشيته أثناء فتوحاته الواسعة، وجعله مستشاره الأول خلال رحلته الاستكشافية التي بدأها من مدينة كانوب وحتى قرية راقودة، بحثاً عن موقع جغرافي متميز لإقامة مدينة الإسكندرية عليه.
ومن إسهامات دينوقراطيس المعمارية بنائه للنصب التذكاري للقائد هيفاستيون، وهو أحد قادة جيوش الإسكندر الأكبر الذي توفي في مدينة بابل، وعُرف ذلك النصب بديع الصُنع باسم محرقة هيفاستيون، كما شارك دينوقراطيس في إعادة تشييد معبد أرتميس مع المعماريين بايونيس وديمتريوس، ويعد معبد أرتميس الثاني أحد أهم عجائب الدنيا السبع القديمة.
تقسيم المدينة :
تتجلى عبقرية المهندس دينوقراطيس في تخطيطه لبناء مدينة الإسكندرية ،حيث تخير لها نمط هندسي يعرف باسم النمط الهيبودامي البنائي، حيث كان هو النمط السائد والمستخدم في تعمير أعظم المدن خلال القرن الخامس قبل الميلاد، وبالأخص المدن اليونانية القديمة الكبرى، والذي كان يعتمد في تصميمه للمدن على أن تكون في شكل علامة “+” الرياضية، حيث يتوفر بهذه المدن شارعين رئيسيين يشكلان أحدهما عرضي والآخر يتعامد عليه بالطول قاطعاً، ومنهما تتفرع الشوارع الجانبية المشكلة للأحياء الرئيسية للمدينة، وكانت تلك الشوارع الفرعية تمتد في خطوط موازية لاتجاهات الشارعين الرئيسيين.
الموانيء :
كانت الفكرة العامة والتخطيط الأولي لـ مدينة الإسكندرية تقتضي إقامة ميناء تجاري واحد، لكن بعد أن رأى الإسكندر ضرورة ربط جزيرة فاروس بالأرض اليابسة على الشاطيء، ترآى لمهندسه دينوقراطيس أن ذلك يتيح لهم فرصة إقامة أكثر من ميناء، ليجعل من الإسكندرية أكبر ميناء تجاري معروف في ذلك الزمان. قام دينوقراطيس بالوصل بين الجزيرة واليابسة بواسطة تشييد جسر عظيم، حيث أن ذلك الجسر كان امتداده حوالي 1300 متراً، ومن ثم بات هناك ميناءان لـ مدينة الإسكندرية أولهما على الجانب الشرقي للجسر والآخر على جانبه الغربي، وكان الميناء الشرقي هو الميناء الرئيسي والأكبر من حيث المساحة ولذا أطلق عليه اسم الميناء الكبير، أما الميناء الواقع بالجهة الشرقية فقد سمي باسم ميناء العود الحميد.
تقسيم مدينة الإسكندرية :
إن المدن لا تتشكل إلا من خلال مجموعة من الأحياء السكنية، لذا نال تقسيم أحياء مدينة الإسكندرية اهتمام بالغ من قبل دينوقراطيس، فقام أثناء تخطيطه لأقسام المدينة بتقسيمها إلى خمسة أحياء سكنية رئيسية، تتركز على جوانب الشارعين الرئيسيين المكونين للمدينة بشكل عام، وهذه الأحياء الخمسة تم تقسيمها بواسطة شوارع شبه رئيسية تمتاز بعرضها المتسع نسبياً، وتتفرع منها شوارع أخرى جانبية “حارات” أضيق عرضاً وأقصر طولاً، كما اهتم بجانب التقسيم المعماري بالتقسيم الإداري أيضاً لـ مدينة الإسكندرية ،فأطلق على كل حي من أحياء الإسكندرية القديمة حرفاً من حروف الأبجدية اليونانية، ليميز بينهم وتسهل بواسطتهم الإشارة إلى حي منهم دون الآخرين، ومع الوقت اكتسبت أحياء مدينة الإسكندرية بعض الاسماء التي عُرفت به، والتي اقتبست عن صفة ساكنيها سواء الطبقية أو الدينية، فكان هناك حي يعرف باسم حي اليهود في إشارة إلى أصحاب الديانة اليهودية الذين تمركزوا ببيوته، وحي آخر عرف باسم حي البروكيون أو الحي الملكي في إشارة إلى الطبقة التي تقطن به، وقد كان من أرقى أحياء مدينة الإسكندرية إذ سكنه أعلياء القوم والأثرياء وقادة الجيش والدولة.
أبواب مدينة الإسكندرية :
كما قام دينوقراطيس أيضاً بتضمين تخطيطه أكثر من بوابة رئيسية تقود لقلب المدينة، ليسهل دخولها على القادمين إليها من البلدان والقرى المحيطة أيا كان جهتهم، فكانت بوابة كانوب هي البوابة الشرقة لـ مدينة الإسكندرية ،يقابلها بجهة الغرب باب آخر للمدينة اطلق عليه اسم باب سدرة، ومن جهة الشمال كانت بوابة القمر تنفتح على مدينة الإسكندرية، وكانت تقود مباشرة إلى الشارع الرئيسي العمودي الممتد من شمالها إلى جنوبها، والذي يوازيه حالياً أحد أشهر شوارع مدينة الإسكندرية وهو شارع النبي دانيال، وبنهاية ذلك الشارع كانت تقع بوابة مدينة الإسكندرية الجنوبية المسماه بوابة الشمس.
التعامد الشمسي :
يبدو أن عبقرية دينوقراطيس كانت أعظم من تحتويها التدوينات بكتب التاريخ، أو ربما قامت بتدوينها وضاعت في الحريق البربري الذي تعرضت له مكتبة الإسكندرية القديمة، لكن مؤخراً قام فريق بحثي إيطالي بالكشف عن سر مدينة الإسكندرية القديمة الأعظم، حيث أكدت دراستهم على أن تصميم شوارع مدينة الإسكندرية بذلك الشكل المتقاطع، كان يسمح بتعامد أشعة الشمس في يوم ميلاد مؤسسها الإسكندر الأكبر على قلب المدينة، وهو الاكتشاف الذي يصفه الدكتور جيليو ماجلي رئيس الفريق البحثي بالاكتشاف المُبهِر.