أدب السجون على عكس المعتقد ليس نوعاً مستحدثاً من الآداب، بل أن قديم لدرجة يصعب معها تحديد الحقبة التي ظهر بها للمرة الأولى، فدائماً كانت تجربة السجن مُلهمة للأدباء والشعراء، ومثال على ذلك الشاعر أبي فراس الحمداني، الذي نظم قصيدته الخالدة التي مطلعها “أراك عصي الدمع”، والتي أنشدتها كوكب الشرق أم كلثوم، وهو واقع بالأسر حبيساً بسجون الروم.. وارتبط الإبداع الأدبي بتجارب السجن والاعتقال، حتى أنه تم استحداث تصنيفاً جديداً ضمن تصنيفات الأدب، فقط كي يخصص لهذا اللون من الإبداعات وسُمي أدب السجون ،ولكن يبقى السؤال المُحير هو : ما سبب ظهور هذا اللون من الفنون الأدبية؟ وما المميزات التي يملكها والتي كانت سر شهرته وانتشاره؟
أدب السجون .. ظهوره وجمالياته :
أدب السجون لم يثر حيرة العامة أو الجماهير فقط، بل أنه شغل الأدباء أنفسهم والنقاد لفترة طويلة، وتناولت أعمال أدب السجون العديد من الدراسات الأدبية، محاولة التوصل إلى أسباب ظهور ذلك النوع، وكذا تناوله النقاد بالتحليل والتأويل استخلاصاً لمواطن الجمال به، فترى ما الذي قادت إليه تلك الدراسات ؟
أولاً : لماذا ظهر أدب السجون ؟
تجربة السجن وسلب الحرية من أقسى التجارب التي قد يمر بها بشر، ولعل من الصعب التصديق بأن هناك من يرغب في تذكر مثل تلك التجربة، فكيف يمكن للبعض أن يرغبوا في تخليدها، من خلال رصد تفاصيلها من خلال أعمال أدبية كاملة، تتنوع ما بين الشعر والقصة القصيرة والرواية والمقال!.. فما الأسباب التي دفعت الأدباء لذلك؟ وشكلت لوناً من ألوان الأدب وهو أدب السجون :
العامل النفسي :
الأعمال الأدبية على نحو الخصوص والأعمال الفنية بصفة عامة، تأتي نتاج تجارب وخبرات والمشاعر المسيطرة على المبدع، فأنه يخرج تلك الطاقات الهائلة المختزنة بداخله بسطرها على الأوراق، و كان ذلك أول أسباب ظهور ذلك النوع من الأدب، والذي يعرف أو يصنف تحت مسمى أدب السجون ..فوقوع المبدع في الأسر أو إيداعه أحد المعتقلات، بالتأكيد يكون له أثر ما في نفسه، عادة يكون شعوراً بالغضب وفي أحيان أخرى يكون بالألم، وفي بعض الحالات النادرة أظهر المبدع مشاعر الندم في أعماله، لكن في كل الأحوال كان العامل النفسي، هو السبب المباشر في إنتاج هذا النوع من الآداب، أي أدب السجون سواء قصة أو رواية أو شعراً.
التجربة :
الحالة النفسية هي أساس الإنتاج الأدبي بأنواعه المختلفة، وبصفة خاصة الأعمال الأدبية المصنفة ضمن آدب السجون ،ولكن إن كان العامل النفسي هو المسبب الرئيسي لهذا الإنتاج، لكنه ليس دائماً السبب الوحيد، ففي بعض الحالات نظم الشعراء قصائدهم ودَوّن الكتاب نثرهم، تأثراً بالتجربة التي مروا بها ليس إلا، ورغبة منهم في تسجيلها والتعبير عنها وإيصالها إلى قطاعات عريضة، فتجربة السجن بالتأكيد لا يمكن أن تمر مرور الكرام، وما يلاقيه المبدع خلالها وما يتعرف عليه ويشاهده، يمثل مادة ثرية جداً بالنسبة له، كما يصبح جزءاً من تجاربه وخبراته ووجدانه، الأمر الذي يدفعه لاستغلال ذلك كله في إنتاجه الأدبي، لتنضم أعماله بذلك إلى قائمة أعمال أدب السجون ..وفي تلك الحالة عادة ما يتخلى عن الذاتية ويتجه إلى الشمولية، أي أنه لا يتجه إلى سرد تجربته الشخصية، بقدر ما يكون مهتماً برصد الحالة العامة السائدة خلف القضبان.
التأريخ :
بعض أعمال أدب السجون ظهرت بغرض التأريخ لحقبة أو حدث، فأن تجربة الاعتقال التي يتعرض لها الشاعر أو الكاتب، عادة ما تكون ناتجة عن حدوث اضطرابات سياسية بدولته، وخلال فترة سجنه أو بعد الإفراج عنه، ينظم شعراً أو يكتب أدباً ليس للتعبير عن تجربة السجن في ذاتها، بل أنه يتخذ من هذه التجربة فقط أرضاً لبناء عمله الأدبي المنتمي لـ أدب السجون ،ويكون الهدف منه هو التأريخ لتلك الفترة التي عاصرها، ورصد ما جرى بها من أحداث وصراعات ومتغيرات سياسية، أي أن الأمر بالنسبة له يكون أقرب للشهادة، التي يسجلها المبدع للتاريخ وللأجيال التالية.
المعارضة والرفض :
إن كان السَجّان سلاحه السوط والأقفال، فالمبدع يرى أن سلاحه قلمه والورق، ومن ثم يمكن اعتبار المقاومة سبباً من أسباب ظهور أدب السجون ،حيث يتخذ الكاتب من شعره أو مقاله منبراً مضاداً للمنبر السياسي، يخطب من عليه بالجماهير ويظهر لهم الحقيقة كما يراها وكما شهدها، ومن خلال هذا النمط من أنماط أدب السجون ،يعلن الكاتب -عادة- سخطه على الأوضاع السياسية السائدة في وطنه، ويُظهر عمداً أو عن غير عمد انتماءاته الفكرية والسياسية بوضوح، وغالباً ما يكون ذلك من خلال المقال الصحفي أو قصائد الشعر، ونادراً ما كتبت روايات كاملة فقط للتعبير عن الغضب وإعلان الرفض.
ثانياً : لماذا أدب السجون مميزاً ؟
الشهرة التي حققها أدب السجون والإعجاب الذي ناله لم يتحققا من فراغ، بل كان بفضل ما يتمتع به هذا اللون الأدبي من خصائص فنية، ميزته وأكسبته رونقه، ومنها :
العاطفة :
صدق العاطفة هو أول العوامل المميزة لأي عمل أدبي، وأول الأسباب التي تحمله إلى قلب وعقل المتلقي، وبالنظر إلى الأعمال الأدبية المصنفة ضمن أدب السجون ،سنجد أن العاطفة طاغية على النصوص ظاهرة بكل حرف منه، وذلك لأن أعمال أدب السجون نشأت أساساً عن تجربة شعورية، أي تجربة مر بها الأديب بنفسه وعايشها يوماً بيوم، ليكون المنتج الأدبي في النهاية مفعماً بالعديد من المشاعر المتدفقة والمتداخلة.
الاختزال والتركيز :
أدب السجون يسلط الضوء على فكرة أو حدث أو تجربة واحدة، وبالتالي فأنه يمتاز بالاختزال والتركيز على الهدف، فكاتب أدب السجون يكون كامل تركيزه منصب على حدث بعينه، فتخرج فقرات نثره أو أبيات شعره متماسكة وموجزة في آن واحد، ونتيجة لذلك كثيراً ما نجد الفقرة واحدة، بل الجملة الواحدة، تتضمن أكثر من محسناً بديعياً أو صورة بلاغية.
البلاغة :
كُتاب أدب السجون يستخدمون الآليات البلاغية ببراعة، فنجد بنصوصهم كل تشبيه في محله وكل استعارة في موضعها، فنتيجة العواطف الجياشة المسيطرة على الأديب، ورغبته في تفاصيل الصورة اللى الكاتب، وإظهار حجم المعاناة وما شهده من ويلات، يلجأ إلى استخدام الآليات البلاغية على اختلافها، التشبيه والاستعارة والكناية.. وغيرها، وما يميز البلاغة بـ أدب السجون عن غيره، هو أن التعبيرات البلاغية به تأتي تلقائية وتؤدي وظائفها دون اصطناع أو تكلف.
التوازن :
أساليب أغلب من أنتجوا نصوصاً تنتمي إلى أدب السجون ،تمتاز بتوازن فريد بين المضمون والأسلوب، فنتيجة معايشتهم للمأساة وملامستهم الواقع المؤلم، يولون اهتماماً كبيراً للمضمون والرسالة التي يحملها النص، وفي ذات الوقت لا يخل ذلك باللمسات الفنية البديعة، وهو ما يجعل نصوصهم في النهاية أشبه باللوحات السريالية، المرسومة بخطوط متعرجة معقدة، وفي ذات الوقت لا يجد المتلقي صعوبة في استقبال رسائلها، وتلامس وجدته وتبعث في النفس شيء من الشجن، وفي ذات اللحظة تعجب الناظرين روعتها الفنية.
العمق والبساطة :
توازن من نوع أخر ولا يقل تفرداً عن سابقه، فـ أدب السجون يمتاز أيضاً بالموازنة بين العمق والبساطة، فالفكرة الرئيسية للعمل الأدبي بالطبع تمتاز بالعمق، ولكن التعبير عنها يكون بلغة بسيطة يسيرة الفهم، وهذا الأمر يعجز عن تحقيقه العديد من الأدباء الآخرين، إلا أن منتجي أدب السجون قد أدركوا أن لا تضاد بين البساطة والعمق، إنما البساطة نقيض التعقيد والعمق مضاد للسطحية، بل أن قمة الإبداع هي التعبير عن أعمق الأفكار بأبسط التراكيب اللغوية.