دولة آشور هي مثال حضاري يحتذى به، رغم إن هناك كثير من المآخذ على تلك الدولة، وإن كثير من حُكامها اتسموا بالبطش واستعباد الشعوب، لكن في النهاية الديمقراطية لم تكن من مبادئ العالم الجميع، وهذا لا يغير من حقيقة إن دولة آشور والدول الآخرى التي عاصرتها، بنوا حضارات عظيمة لا نزال نتغنى بما حققته حتى اليوم.. دولة آشور أو الامبراطورية الآشورية كانت بدايتها ببلاد ما بين النهرين، ودامت حكمها لمدة زمنية طويلة تمتد ما بين عامي 934 ق.م و609 ق.م تقريباً، وخلال هذه الفترة توسعت رقعة دولة آشور وتضاعفت، حتى صارت أمبراطورية عظيمة وتوسعت حتى شمل نفوذها سواحل المتوسط، ونافست في زمنها حضارات عظيمة مثل الحضارة البابلية، وكذلك الحضارة الفرعونية أو المصرية القديمة وغيرهما، إلى أن حل عصر الاضمحلال وسقطت عاصمتها نينوي بيد البابلين، فانهارت الدولة الآشورية وانقضى زمنها كسائر الدول، لكن بقيت آثارها خالدة لتخبرنا بحضارتها التي كانت.
دولة آشور ومقومات الحضارة :
امتلكت دولة آشور كامل مقومات الدولة المتقدمة والحضارة العظيمة، وكانت تعد من أكثر الأمم تقدماً في العالم القديم، والأمثلة على هذا عديدة وكذلك البراهين والدلائل، فما هي مواطن تميز دولة آشور وما سر ودلائل حضارتها؟
اللغة وتطورها :
اللغة هي الأساس الذي قامت عليه كافة الحضارات الإنسانية، والسر في ذلك هو إنها الأداة الأولية والرئيسية للتواصل المجتمعي، ولا زالت اللغات حتى اليوم تحتفظ بمكانتها بين العلوم، وتخضع لدراسات وتحليلات عديدة تسمى “التحليل اللساني”، والذي يقوم على ثلاث عناصر رئيسية “اللفظ والدلالة والسياقة”، وكوننا نتناول حضارة دولة عظيمة مثل دولة آشور ،فيجب أن نتطرق إلى اللغة التي تحدثها أهلها، والأدلة التاريخية والآثرية التي تعود لعصر الدولة الآشورية ،تؤكد على إنهم استخدموا اللغة التي سبقهم إليها البابليون، وهي اللغة الأكدية، وكان لدى شعب دولة آشور قابلية دائمة للتغير والتطور، ودليل ذلك هو إن في عهد شاروم كين تحدثوا الآرامية، ورغم إنها كانت منافسة قوية لنظيرتها الأكدية، إلا أن الأخير احتفظت بمكانتها كلغة رسمية لـ دولة آشور
الكتابة وأسلوبها :
الكتابة أيضاً هي إحدى المقومات الأساسية لأي حضارة، بل إن من الأمور التي تميز حضارات العالم القديم عن بعضها بعض، هو معرفتها بأمور الكتابة والقراءة والتدوين من عدمه، وكانت حضارة دولة آشور من الحضارات التي تيمزت بذلك العامل، وكانت اللغة الأكدية في دولة آشور الحديث ،هي اللغة المستخدمة في تدوين وتوثيق الكتابات الرسمية.
أما عن الأسلوب الذي استخدمته تلك الحضارة بالكتابة، فهو أسلوب الكتابة المسمارية أو الخط المسماري، فكانت دولة آشور تستخدم ألواح الطين في التدوين، إذ يتم النقش فوق سطحها بواسطة المسامير، وهو سر تسمية هذا الأسلوب الكتابي بمسمى الكتابة المسمارية، والعديد من حضارات جنوب غرب آسيا القديمة استعملت ذات الأسلوب، مع اختلاف خامات الألواح التي استخدمت في النقش، فمنهم من استخدم الطين ومنهم من استخدم الحجر، والبعض اتجه إلى استعمال المعادن والقوالب الشمعية.
الزراعة والثروة الحيوانية :
دولة آشور اعتمدت على الزراعة اعتماد شبه كلي، وبالتعبيرات الحديثة المستخدمة في زمننا المعاصر، يمكن وصف الزراعة بالنسبة لـ دولة آشور ،بإنها المصدر الدخل القومي الرئيسي بالبلاد، وقد قام المؤرخ فايزت “Faist” وصف دولة آشور في كتبه، بإنها كانت مجتمع زراعي مزدهر، وفي عصر دولة آشور الحديثة تمكنوا من تحقيق الاكتفاء الذاتي، بل إن إنتاجهم الزراعي كان يفيض عن حاجة مجتمعهم، ولهذا اتجهوا إلى المتاجرة به وتصديره، واستغلال العائد منه في تمويل أعمال العمران المختلفة، وكانت الأراضي المخصصة لعملية الزراعة تنقسم لثلاث أنواع، بحسب التصنيف الذي أورده جارلي “Garelli” بكتاباته وهي:
- أراضي التاج : وهي مجموعة أراضي زراعية خاصة بالملك، تزرع لصالحه وعائدها يصب في خدمة القصر والجيش والمعابد.
- أراضي الخاصة : ذلك المصطلح يشار به لنسبة كبيرة من المسطحات المزروعة، والتي كان يمكلها الحاشية والسادة بـ دولة آشور
- أراضي الاستثمار : وهي أراضي زراعية مملوكة للتاج أيضاً، لكن الملك كان يسمح لصغار المزراعين باستغلالها، بما يتشابه مع ما يعرف في زمننا الحالي بحق الانتفاع.
- أراضي البيع : تم العثور على العديد من الوثائق القانونية العائدة لـ دولة آشور ،والتي تثبت إن القوانين التي وضعها القائمون على إدارة الدولة، كانت تسمح ببيع وتناقل ملكية الأراضي الزراعية، ولكن ذلك الأمر كان يقتصر على مساحات محدودة، تقع خارج نطاق المساحات الشاسعة، التي كانت تخضع لسيطرته التاج ورجال الخاصة الملكية.
الحديث عن الريادة في المجالات الزراعية، لا يمكن أن يتم بمنأى عن الحديث عن تربية الحيوانات، باعتباره أمر مُدرج ضمن النشاط الزراعي، وقد اشتغل واشتهر مزارعي دولة آشور بتربية حيوانات المزارع، فملكوا ثروة حيوانية هائلة من الضأن والأبقار.
الصناعة والحرف :
اشتهر شعب دولة آشور بإتقانه لعِدة حرف، أهمها على الإطلاق غزل الملابس وصناعة المنسوجات، وأيضاً اشتغل الحرفيين الآشوريين بالصناعات الفخارية، فكانوا يعملون بتشكيل الآواني والأدوات المنزلية، أما الصناعة الأصعب التي برع بها الحرفي الآشوري، فكانت صناعة تشكيل المعادن، وكان جزء من اقتصاد دولة آشور يعتمد على تصدير هذه المعادن، بعد أن يتم تشكيل النحاس والبرونز في صورة سبائك، كذلك قامت دولة آشور بتشكيل التحف المنزلية، والتي كان يتم صنعها باستخدام خامات متعددة، منها الغزل والأخشاب المختلفة بجانب عاج حيوانات مثل الأفيال ووحيد القرن.
التجارة :
الحضارة الإنسانية تقاس بمعدلات إنتاجية شعوبها، وحضارة دولة آشور كأي حضارة قديمة أو حديثة، كانت تستند إلى اقتصاد بالغ القوة، يتمثل في ارتفاع معدلات إنتاجها الزراعي والصناعي، فتمكنت من تحقيق الاكتفاء الذاتي وصار لديها فائق بالانتاج، فكانت النتيجة الحتمية أن تتجه دولة آشور للتجارة، للاستفادة بالعائد المادي من فائضها عن طريق تصديره، وكذلك تعويض ما ينقصها من مواد باستيراده من خارج أراضيها، وقد انقسمت التجارة في دولة آشورين إلى نوعين، تبعاً للانقسام الطبقي للمجتمع، وهما:
- التجارة الأساسية : حركة التجارة الأساسية يقصد بها تصدير المنسوجات، وكان يسمح بممارستها لعامة الشعب وصغار التجار، وكان أغلب القوافل التجارية من هذا النوع، تتجه إلى الدول التي تحيط بـ دولة آشور ،أو تكون قوافل تجارية داخلية، أي تعتمد على نقل المنتجات من بلدة لأخرى في نطاق الامبراطورية.
- التجارة البعيدة : احتكرت الطبقة العليا بـ دولة آشور ذلك النوع من التجارة، وكانت تربطهم علاقات تجارية بالعديد من الممالك القديمة، فقد تبادلة دولة آشور التجارة مع مصر القديمة، وكذلك هناك أدلة تاريخية على قيامها بتبادل تجاري مع أورغاريتعلي وغيرهما.
العمارة والفنون :
الفن هو المرآة التي يُشاهد عليها رقي الدول ومدى تحضرها، حتى إن كلمتي الفن والحضارة يعتبرا مرادفان لمعني واحد، وحضارة دولة آشور عرفت أشكال مختلفة من الفنون، لكن تميزها الأكبر كان في فني العمارة والنحت، وأشهر منحوتات دولة آشور كان نقش الثور المجنح، الذي كان يعد بمثابة رمزاً للدولة، فكانت تزين به جدران المعابد والقصور، بجانب بعض المنحوتات التي كانت تصور رحلات الصيد، أو تخلد الانتصارات التي قام بها ملوك دولة آشور.
أما أعمال البناء والعمران فقد شهدت ازدهاراً مماثل، وكانت مادة الآجرة هي المادة الرئيسية المستخدمة في البناء، وكانت تصنع منها أسقف الأبنية الضخمة، مثل المعابد والقصور، وكذلك كان يُستعمل الخشب في عمل الدعمات، وكان يتم جلبه إلى دولة آشور من لبنان أو الأمانوس.
مقال مميز ورائع سواء من الناحية المعرفية او التنظيمية التي وضع بها…حبدا لو وضعتم مصادر البحث. واصلوا ولا تبخلوا علينا.. تقبلوا مروري
التعليقات مغلقة.