المسرح هو أبو الفنون جميعها، حتماً سمعت من قبل تلك العبارة، ولعلك سلمت بصدقها لكن هل سألت عن سرها؟!.. فذلك اللقب لم يحمله المسرح من فراغ، بل أنه حصل عليه عن جدارة، واستحق أن يتفرد به دون غيره من مختلف الفنون، فترى لماذا؟
لماذا المسرح يُلقب بأبو الفنون :
هناك نظريتين حول سر تلقيب المسرح بأبو الفنون، وإن كان غالبية النقاد ودارسي الفن المسرحي، يرون أن أنه لا مجال للمنافسة أو المفاضلة بينهما، وإن مكانة المسرح قد تخلقت نتيجة الدمج بينهما.
أولاً : المسرح جامع الفنون :
إذا كان الأب هو عضو العمود الفقري لبنيان الأسرة، فأن المسرح هو الدعامة الرئيسية في بناء الفن، ولذا فقد استحق عن جدارة لقب أبو الفنون، فعند الجلوس في صفوف الجماهير ومواجهة خشبة المسرح ،فإن صاحب النظرة القاصرة لا يري عليها سوى عرضاً تمثيلياً، أما صاحب النظرة الثاقبة يجد عليها مأدبة فنية، ورغم ذلك البُعد بين أنواع الفنون إلا أنهما على المسرح يكونوا متآلفين متناسقين.. كيف؟.. لنجيب على ذلك التساؤل، علينا أولاً استعراض أنواع الفنون التي يجمعها المسرح من حيث طبيعتهم، وهم ينقسمون إلى نوعيين رئيسيين.
المسرح والفنون المكانية البصرية :
النوع الأول أو النمط الأول من الفنون التي يشملها المسرح ،هو نمط الفنون المكانية والتي تعرف أيضاً بالفنون البصرية، وقائمة هذا النوع من الأعمال الإبداعية تضم عدد كبير من أنواع الفنون، تلك الأنواع التي تعتمد على الرؤية في إيصال فحواها إلى المتلقي، أي أن جمالياتها الفنية ورسالتها العميقة وكافة خواصها، يتذوقها المتلقي بواسطة النظر إليها، ومن بينها فن التصوير وفن الزخرفة على تعدد ألوانه، وكذا تضم القائمة النحت والعمارة بكافة مراحل تطورهما، وكافة أنواع وأشكال الفنون التطبيقية، مثل الفن التجريدي وفن الديكور واللوحات السريالية والفن التشكيلي،
وقد ضمت القائمة في العصور الحديثة ألوان أخرى من الفنون، وأيضاً هذه الأنواع المستحدثة استحوذ المسرح عليها، وضمها إلى نسيجه الفني المتماسك، مثل فن الإضاءة وإبراز الكتل باستخدام النور والظلال، والرسومات المجسمة التي تشبه تقنية الثري دي 3D.
أما عن تسمية هذه الفنون بالفنون المكانية، فذلك لأن التمتع بها لا يتطلب أكثر من التوافر بأمكانها، فهي عصية على الزمان متمردة عليه، فعلى سبيل المثال عمارة الحضارات القديمة، لازال بإمكاننا مشاهدتها رغم مضي آلاف العقود على الزمن الذي أُبدِعت به.
المسرح والفنون الزمنية السمعية :
الفنون السمعية أو الفنون الزمنية هي الشق الثاني المكون لعائلة الفنون، وهذا الشق أيضاً لم يهمله المسرح ،بل أنه يعتبر لُب العروض المسرحية، وتلك الفنون تتسم بالاعتماد على حاسة السمع لإيصال محتواها للمتلقي، وبالطبع أول هذه الفنون هو فن الموسيقى، بما يشتمل عليه من فروع عديدة منها الغناء والتلحين وضبط الإيقاع الموسيقى، وبعد أساتذة فن الموسيقى اعتبروا الصمت أحد أدواتها، إذ أنه يستخدم للفصل بين النغامات والمقطوعات المختلفة، مما يجعله إحدى وسائل ضبط الإيقاع، وكذا الفنون الاستعراضية على تعددها فنوناً سمعية، أيضاً اعتبر أساتذة الفنون الفن المقروء فناً سمعياً، إذ أنه في الأصل كان يعتمد على الإلقاء، ومنه فن كتابة القصة وكتابة الرواية والشعر والملاحم الشعبية والقصص الموروثة.
أما عن سر تسمية هذا النوع بالفنون السمعية الزمانية، فهي لأنها تقدم في صورة حدث مباشر، أي أن المتلقي يجب أن يكون متواجداً وقت تقديم الفن، وبالطبع ذلك التصنيف كان قبل ابتكار تقنيات التسجيل والعرض.
المسرح فن زماكاني :
أبو الفنون المسرح يمكن إن أردنا تصنيفه فهو فن زماكاني، فلا يمكن أن نقصره على الفنون الزمانية السمعية وحدها، ولا يمكن أن يصنف كفن بصري مرتبط بالمكان، والسر في ذلك هو أن المسرح يجمع بين هذا وذاك، فإذا نظرنا إلى العناصر التي يتكون منها العرض المسرحي، سنجد أنها متعددة ومتنوعة وجامعة لكلا نوعي الفنون، فبداية فن المسرح ما هو إلا تجسيد لنص روائي، وهو نوع فني ينتمي إلى الفن السمعي الزماني، وكذا يتضمن العرض إيقاعات أو مقطوعات موسيقية، وأحياناً تحتوي الدراما المسرحية على استعراض راقص، وكلها فنون تنتمي للنوع ذاته، كذا المسرح لا يمكن أن يُقام به عرضاً دون ديكور، الذي يتم خلقه من خلال تضافر فنون مختلفة جميعها بصرية مكانية، فهو يتألف من اللوحات المرسومة والقطع النحتية البارزة وخلافه..
وخلاصة إن أيا كان نوع الفن الذي تهواه، فإنك حتماً ستستمتع به حين تذهب إلى المسرح وتشاهد عرضاً، فهو جامع الأضداد وحاضن كافة الألوان، ولهذا استحق أن يحمل اللقب دون أن ينازعه عليه أي لون فني آخر.. لقب أبو الفنون..
ثانياً : المسرح أول الفنون :
النظرية الثانية التي أكسبت المسرح لقب أبو الفنون، هي تلك النظرية القائلة بأن المسرح هو أول الأنماط الإبداعية التي عرفها الإنسان، ويُقال أن الإنسان منذ بدء الخليقة، بدأ في استخدام قدراته على التخيل، وهي القدرة التي حباه به الخالق عز وعلا، وميزه بها حتى عن سائر المخلوقات الأخرى، بما فيها القردة التي هي أقرب الكائنات إلى الإنسان، وبدأ الأمر بتقليد الإنسان الأول لحركات الحيوانات وأصوات الطبيعة، وكانت تلك هي النواة الأولى لفن التمثيل، وابتكارالمسرح كلون إبداعي مستقل بذاته، وخلال قرون طويلة شهد فن المسرح تطورات عديدة، حتى أصبح على الصورة والنسق الذي هو عليهما اليوم.
تلك النظرية لم تستند إلى كلام مرسل أو مجرد تخمينات، قد يكون الأمر كذلك بالنسبة للشق المتعلق بالإنسان الأول، لكن كون المسرح هو أقدم فن عرفته البشرية، فذلك أمر برهنت عليه العديد من الأدلة التاريخية، والمواقع الأثرية التي عُثر عليها ببقاع عديدة على كوكب الأرض، والتي تدل على المكانة العظيمة التي تقلدها المسرح لدى العديد من الحضارات القديمة، والأمثلة على ذلك عديدة ومن بينها:
المسرح في الحضارة الفرعونية :
الشائع أن الإغريق القدامى هم أول من عرفوا المسرح ،لكن هذا القول قد أُثبِت مؤخراً بطلانه، بعد أن وجد الدليل القاطع على أن الفراعنة قد قدموا فنوناً مسرحية، وذلك بحسب النقوش التي وجدت بمحيط المقابر الفرعونية، التي تم الكشف عنها بمنطقة بني حسن بمحافظة المنيا، والتي يرى علماء الآثار أنها توضح قيام الفراعنه بتقديم عرضاً مسرحياً، وقالوا بأن تلك العروض كانت تقدم بساحات المعابد، وكانت عروضهم تتضمن محاكاة تمثيلية للأساطير الشهيرة بالثقافة الفرعونية، والنقوش كانت تصور تجسيد عرضاً لأسطورة إيزيس وأزوريس.
المسرح في الحضارة اليابانية :
الحضارة اليابانية القديمة يمكن وصفها بإنها حضارة مبدعة، إذ أنها اهتمت بمختلف ألوان الفنون ومجالات الإبداع، ومن بينها فن المسرح الذي حظي باهتمام بالغ منهم، بل أنهم قدموا أنماط عديدة من فن المسرح ،أشهرها يُعرف باسم عروض كابوكي المسرحية أو مسرح كابوكي، وكان ذلك في فترة إيدو وهي الحقبة الأخيرة من تاريخ الحضارة اليابانية القديمة، وأول عرض كابوكي قُدم في عام 1603م، وكان عرضاً دينياً قدمته الكاهنة إزومو نو أوكوني، ولقي عرضها استحسان قطاعات كبيرة من الشعب، الأمر الذي أدى إلى انتشار هذا النوع الفني، وبات فناً شعبياً يقدمه الكثيرون ويناقش قضايا مختلفة. كما سبق على ذلك النمط من المسرح الياباني، نمط آخر كان يسمى بمسرح نو وظهر خلال القرن الرابع عشر الميلادي.
المسرح في الحضارة اليونانية :
المسرح هو جزء لا يتجزأ من الحضارة الإغريقية، وأن أعظم الفنون المعمارية التي خلفوها لنا، تتمثل في المسارح العظيمة التي أقاموها، والتي كان يحضر عروضها الملوك والقادة وأعلياء القوم، ويعتبر المسرح الإغريقي هو الأقرب للصورة الحالية للمسرح، حيث لم يتم التعامل معه فقط كمجرد صورة تعبيرية، أو مرآة عاكسة لرؤى المجتمع ومشكلاته وثقافته، إنما اهتم اليونانيون القدامى بالبنيان الفني للمسرح، والأساطير اليونانية التي تم تجسيدها على مسارحهم قبل قرون، قُدِر لها الخلود ولا زالت تقدمها بعد الفرق المسرحية إلى يومنا هذا بلغات مختلفة.