مما لا شك فيه أنك إذا سألت أي عربي مهما كانت جنسيته عن القصة الأشهر في التراث العربي من حيث الانتماء إلى الرومانسية فإن الإجابة سوف تكون بالتأكيد قصة عنتر وعبلة ، تلك القصة التي مر عليها مئات السنين ولا تزال حاضرة في الأذهان ويُضرب بها المثل في الرومانسية والحب على الرغم من وجود مئات القصص الأخرى، إلى أن تلك القصة تمكنت من شق طريقها بين الجميع نحو القمة وحققت مكانة عالية، ولن نُبالغ إذا قلنا أنها لم تعد تقتصر على الوطن العربي فقط، فهي أيضًا موجودة في أوروبا، لكن معروف بالطبع أنها ملك للتراث العربي وأنها قد نبعت منه، لكن ما يُثير الاهتمام حقًا هو كون تلك القصة ما تزال حتى الآن محافظة على شهرتها كأعظم تراث عربي في الرومانسية، لماذا يحدث ذلك يا تُرى؟ هذا هو السؤال الذي سنحاول الإجابة عليه في السطور القادمة، ولتكن البداية مثلًا مع السبب الأكثر شهرة، وهو التضاد الشديد بين أطراف هذه القصة.
التضاد الشديد بين أطراف قصة عنتر وعبلة
أطراف أي قصة حب هما المحب ومحبوبه، هذا أمر لا خلاف عليه بكل تأكيد، وقد يحدث أحيانًا أن يكون أطراف القصة غير متساويين، بمعنى أن طرف من الطرفين يكون أغنى من الطرف الآخر أو متفوق عليه في أي جانب من الجوانب الأخرى كالذكاء أو المستوى الاجتماعي، لكن في هذه القصة التي نتحدث عنها فإن عنتر وعبلة كانا متباعدين جدًا عن بعضهما، فعنتر لم يكن سوى عبد فقير، أما عبلة فقد كانت ابنة مالك هذا العبد، وهو فارق هائل بالطبع لا يُمكن مقارنته بالفوارق التي أعطينا أمثلة بها قبل قليل، ولذلك عندما نقول أن علاقة التضاد كانت حاضرة في هذا الحب فنحن لا نبالغ بالمرة لأن الأمر لا يتوقف عند مجرد عدم التساوي بين الطرفين.
الناس يُحبون هذا النوع من الحب، عندما تُشاهد الأفلام السينمائية سترى أن القائمون على العمل يُحاولون إظهار العلاقة في هذه الصورة، من النادر جدًا أن يتم استعراض علاقة حب متساوية الأطراف، بل يجب أن يكون هناك طرف متفوق على الآخر في شيء، وهنا تكمن الإثارة التي ترفع من قيمة هذه القصة تمامًا مثلما حدث في التراث الرومانسي عنتر وعبلة، فاستحالة الحب جذبت الناس إلى القصة وأكسبتها شهرة كبيرة.
تخليد عنتر لقصته من خلال الشعر
التاريخ لا يتكفل دائمًا بكتابة قصص الحب، على بعض القصص أن تشق طريقها بنفسها كي تصل في النهاية إلى ما تستحق من شهرة، وفيما يتعلق بقصة عنتر وعبلة فقد كانت هناك طريقة تمكنت من خلالها القصة من تخليد نفسها، تلك الطريقة هي في الحقيقة موهبة امتلكها عنتر وساعدته كثيرًا في تحقيق تلك المعادلة، وهي طريقة الشعر، والذي كان عنتر يُعتبر من أهم رواده في ذلك العصر الذي عاش به، فكان كل شيء يحدث له يقوم بتخليده على الفور في صورة أبيات، وطبعًا الذين يكتبون الشعر خلف الشعراء كانوا كُثر للغاية، ولذلك حُفظت تلك الكلمات حتى يومنا هذا، بل إن الناس بدئوا في تناقلها ليتم منحها شهرة إضافية، شهرة تلك القصة وأطرافها، عنتر وعبلة.
شعر عنتر كان يتحدث عن معاناته في الحب والحرب، وكذلك بُعد محبوبته عنه بسبب الحواجز التي وُضعت أمامهما، حواجز اجتماعية ومادية ومعنوية، كل هذا كان يجعل عنتر في حالة تأهب شبه دائمة للانفجار، وقد كان ذلك الانفجار يأتي في صورة شعر، وكما نعرف جميعًا، الشعر من أفضل فنون الأدب من حيث القدرة على التعبير وإيصال المعنى المُراد، فهو يتفوق عن القصة والرواية وأي لون أدبي آخر يستخدمه الأدباء.
التحديات التي واجهت الحبيبين
تعلق الناس بأي قصة حب لا يكون بسبب غرابتها فقط، وإنما كذلك يُمكن حدوث ذلك التعلق لأسباب فطرية خالصة مثل الميل إلى التحديات ومعرفة طريقة الناس في التعامل معها، والحقيقة أن التراث العربي لا يعرف قصة حب ورومانسية قد واجهت معاناة بقدر ما واجه عنتر وعبلة، هذان الشتيتان اللذان لم يجمع بينهما أي شيء مُشترك، لكنهما كان مصممين للغاية على الاجتماع، فمثلًا، كان عنتر أسود قاحل السواد، وعلى الجانب الآخر كانت عبلة جميلة جميلات القبيلة، وعلى الرغم من هذا كانت الغلبة للحب في النهاية، والحب بلا شك لا يُفرق بين أسود وأبيض، ففي واقع الأمر القلوب عمياء عن الألوان والأديان والأعراق، وكل شيء يُمكن أن يكون سببًا في إعاقة قلبين من الالتقاء.
أيضًا التحديات كانت موجودة في ذلك الطلب الذي طلبه والد عبلة من عنتر كي يقبل بزواجها، فكل من قرأ أو شاهد الأفلام التي تتحدث عن هذه القصة يعرف جيدًا أن والد عبلة قد طلب من عنتر مئة ناقة حمراء، وهو طلب شبه مُستحيل، لكن السعي لتنفيذه من جانب عنتر والمخاطرة بحياته يُضيفان كثيرًا للقصة ويُدخلانها ضمن التراث العربي الأصيل الذي لا يُنسى، وقبل كل ذلك فطرة الإنسان كما ذكرنا تميل إلى التحديات من حيث مُراقبتها عن كثب واللهث خلفها لمعرفة من سيفوز بها في نهاية المطاف.
تجسيد القصة في العديد من الأعمال السينمائية
السينما هي بوابة الخلود، هذه هي الحقيقة التي يُدركها الجميع بلا شك، فإذا كنت تُريد تخليد شيء ما فعليك أن تعرضه على الشاشات، دع الناس يُشاهدونه ويرون ما حدث بالضبط وكأنهم عاشوا تلك الحقبة التاريخية، وهذا ما حدث بالضبط في قصة عنتر وعبلة التي نتحدث عنها، فإذا كنا نتساءل عن أسباب كونها أشهر قصة في التراث العربي يجب علينا ألا نغفل أبدًا كونها القصة الأبرز التي تلقفتها السينما العربية وجعلتها رمزًا للحب العربي القديم، وهو بالمناسبة نفس ما حدث في قصة روميو وجولييت بالنسبة للغرب، فهم أيضًا أدركوا أن قصة عزيمة مثل هذه لا يُمكن أن تُخلد إلا من خلال أعمال سينمائية قوية، الجميع يعرف تلك الحقيقة التي ذكرناها قبل عدة أسطر، السينما هي البوابة الحقيقية للخلود.
بدأ الوطن العربي ينتبه إلى قصة عنتر وعبلة وإمكانية تخليدها من خلال السينما في ستينيات القرن المُنصرم، وكان فريد شوقي هو صاحب المبادرة في هذا الأمر، لكن، ولكي نكون صريحين، فإن عرض القصة في البداية لم يكن بغرض تخليد قصة الحب بين عنتر وعبلة بقدر ما هو عرض لقصة البطل عنتر بن شداد، ثم بعد ذلك توالت الأعمال التي أعطت لقصة الحب هذه حقها، وآخرها مثلًا مسلسل خليجي تم إنتاجه من ثلاثين حلقة ويتناول القصة باستفاضة شديدة، وقد كان هذا، بلا أدنى شك، سببًا من أسباب خلودها وضمان إيصالها للأجيال القادمة، وحتى لو كان ذلك عن طريق أشرطة سينما أو حلقات مُسلسل، في النهاية سيتحقق المراد.
لأن عنتر بن شداد بطل عربي شهير
أيضًا من ضمن الأسباب التي ضمنت لقصة حب عنتر وعبلة الخلود في التراث العربي واعتبرها أشهر قصة حب فيه أن عنتر بن شداد، وهو أحد أطراف هذه القصة المُدهشة، كان في الأصل بطل شعبي، ونحن هنا لا نبحث خلف الارتباط بين حبه لعبلة وشهرته كبطل، فمهما كان ترتيب أي الأمرين من حيث الحدوث فإن النتيجة في النهاية تبقى واحدة، وهي أن عنتر كان بطل شعبي شهير، وكانت قصة حبه كذلك واحدة من أشهر قصص الحب في التاريخ العربي، ففيما يتعلق بالحب فهو أمر لا يُمكن تفسيره لأن القلوب كما نعرف جميعًا بين يدي الله، لكن ما يُمكننا شرحه بطولة عنتر ولماذا أصبح عبد عادي بطل في أنظار العرب المُعاصرين والسابقين، وكل الأجيال التي استمعت لبطولاته بشكل عام.
بطولة عنتر لم تنبع من فراغ، فهو كان يُعرف في عصره بحامي العرب الأول، والذي كان الغزاة من كل مكان في العالم يُقيمون ألف حساب له، يقولون هذه بلاد عنتر فلا يجب أن نخوضها أو نُقيم حربًا بها، أما عندما تحدث الحرب فكان عنتر يقف كالأسد ليزود عن الجميع، وكان له زئير شهير ربما تم نقله في الأفلام التي جسدت شخصيته، زئير يتفوق على زئير الأسد في القوة والرعب، وبالتأكيد كان عامل البطولة هذا سببًا من أسباب تخليد قصة الحب التي جمعته مع عبلة، فعندما يُحب البطل فتاة ما فإن الأمور لا تكون طبيعية أبدًا.
انتصار الحب في نهاية قصة عنتر وعبلة
هناك ظاهرة غريبة بعض الشيء، وهي أن أغلب قصص الحب التي تم تخليدها حظيت في حقيقة الأمر بنهاية سيئة جدًا، على سبيل المثال قصة روميو وجولييت وقصة قيس وليلى، فهذه القصص حقيقية تمامًا، وقد كانت آية في العشق، ولا تزال الأمثال تُضرب بها حتى الآن، لكن بالرغم من ذلك انتهت القصة بنهاية مأساوية، وربما تلك النهاية هي من أضفت الشهرة على القصة إلا أن الأمثال عندما تُضرب فلا يتم بالتأكيد اختيار مثل هذه القصص لما تُصدره من صورة مأسوية، وإنما يتم النظر إلى القصة الأكثر شهرة وفي نفس الوقت تمتلك درجة كبيرة من التفاؤل والأمل الذي تحتاج إليه أي قصة حب، ولهذا، نجد أن قصة بطلينا عنتر وعبلة هي الحل الأمثل لتحقيق هذه المُعادلة.
مرت قصة عنتر وعبلة بالعديدات من المنعطفات الصعبة التي هددت بالتأكيد وجودها، لكن النجاح الذي حدث في النهاية جاء ليُكلل كل هذا الحب من جانب عبلة وكل هذا الصبر من جانب عنتر، كما أن المحاولات التي أُجريت والصعاب التي تم خوضها كانت كفيلة حقًا بأن يتم تخليد هذه القصة كأفضل قصة رومانسية في التراث العربي بأكمله، وهل ثمة أصلًا ما هو أجمل منها؟ سؤال لا يستحق التفكير كثيرًا من أجل الحصول على إجابة له.