ربما ظاهرة الرشوة في المجتمعات بصفة عامة -والمجتمعات العربية على وجه التحديد- ليست مُستجدة، لكن في ذات الوقت لا يُمكن إنكار حقيقة أنها قد تفشت بشكل غير مسبوق خلال السنوات العشرة الماضية داخل مختلف المؤسسات والهيئات الحكومية، تقريباً لم يعد هناك إجراء واحد يتم دون التعرض للابتزاز والاضطرار إلى دفع مبالغ إضافية بشكل غير قانوني.. فترى لماذا تفشت ظاهرة الرشوة إلى هذا الحد؟ وما العوامل التي ساهمت في انتشارها؟
أسباب تفشي ظاهرة الرشوة :
تم تناول ظاهرة الرشوة بالبحث والدراسة في محاولة للتوصل إلى العوامل التي أدت إلى تفشيها إلى هذا الحد، وقد توافق الباحثون حول عدد من العوامل واعتبروها المُسببات الرئيسية في انتشار تلك الظاهرة السلبية وكانت كالآتي:
الفساد الإداري
يعد الفساد الإداري أحد أبرز أسباب تفشي ظاهرة الرشوة في المجتمعات بل ويمكن اعتباره السبب الرئيسي، سواء كان ذلك الفساد مُحجماً يقتصر على مؤسسة بعينها أو سواء كان حالة عامة متفشية بالمجتمع أو الدولة بالكامل. يتخذ الفساد الإداري مظاهر عديدة لكن أبرزها هو عدم تفعيل دور الرقابة بشكل حقيقي.
حين تغيب الرقابة تسود الفوضى وتنتشر الظواهر السلبية المختلفة بين الموظفين وفي مقدمتها بطبيعة الحال ظاهرة الرشوة ؛حيث أن العنصر الفاسد في تلك الحالة يأمن العقاب والمساءلة عن أفعاله، وهو الأمر الذي يفتح الباب على مصرعيه أمام الرشوة بمختلف أشكالها سواء كانت في صورة ابتزاز للمواطن لأجل إنجاز مصالحه أو في صورة مخالفة اللوائح والقوانين لصالح شخص أو جهة على حساب آخرين مقابل تلقي مبالغ مالية أو هدايا عينية.
فقدان المعيارية
يعد فقدان المعيارية بمثابة داء مجتمعي وهو يقف وراء عدد غير قليل من الظواهر السلبية ومن بينها ظاهرة الرشوة التي تفشت في عدد كبير من الدول العربية خلال السنوات الأخيرة، وينشأ فقدان المعيارية حين تختلط الأمور على الفرد ويعجز عن التفرقة بين الصواب والخطأ ويتزعزع إيمانه بالمبادئ والثوابت الأخلاقية، عادة ما تكون الحُجة هي أن ذلك هو الشائع أو المعتاد.
كشفت الدراسات أن بعض المنشآت الحكومية في الدول العربية أكثر فساداً من غيرها، ويرى المحللون أن الفساد ينتشر بين الموظفين كما تنتشر العدوى، حيث أن بعض الموظفين يتأثرون عند تواجدهم في بيئة إدارية فاسدة بسبب فقدانهم للمعيارية، وغالباً ما يكون منبع الفساد في تلك الحالة هو رأس الهرم الإداري أي المديرين وأصحاب المناصب العليا وينتقل منهم إلى صغار الموظفين.
ضعف الوازع الديني
يمكن اعتبار ضعف الوازع الديني العامل المشترك بين كافة الظواهر السلبية المتفشية بالمجتمعات ومن بينها ظاهرة الرشوة والتدليس واستغلال النفوذ وصلاحيات المناصب الوظيفية. قد تم تحريم الرشوة بشكل قاطع ضمن أحكام الشريعة الإسلامية ومختلف الأديان السماوية، حيث أنها تقوم على باطل وتعد أحد مظاهر الابتزاز أو بالأحرى أحد مظاهر السرقة.
يرى علماء الاجتماع والفقهاء أن ضعف النزعة الإيمانية والابتعاد عن طريق المولى -عز وجل- من الأسباب الرئيسية في تدهور الأوضاع الأخلاقية بشكل عام، حتى أن البعض لم يعد يجد أدنى غضاضة في قبول المال الحرام الذي يتم الحصول عليه بأساليب ملتوية مثل الاحتيال أو الابتزاز أو الرشوة.
الروتين الحكومي وتعقيد الإجراءات
يتحمل الراشي والمُرتشي معاً المسؤولية كاملة عن تفشي ظاهرة الرشوة بالمجتمعات؛ حيث أن الرشوة تعد الجريمة الوحيدة التي يعتبر ضحاياها شركاء بها، فلولا انصياعهم لابتزاز الموظفين وتنازلهم عن حقوقهم ما تفشت تلك الظاهرة المدمرة، إلا أن الحُجة التي يرددها دافعي الرشاوي دائماً هي أن ذلك هو السبيل الوحيد للتغلب على التعنت القانوني والروتين الحكومي الممل الذي يهدد مصالحهم المختلفة.
يلجأ عدد كبير من المواطنين إلى دفع الرشوة فقط من أجل ضمان إنهاء أعمالهم المُعلقة سريعاً والنجاة من حبال الروتين الطويلة والمملة المُهدرة للوقت والجهد معاً؛ حيث أنهم يرون الرشوة في تلك الحالة شراً لابد منه أو مجرد وسيلة لتخطي العقبات التي تعرقل سير الإجراءات المعقدة التي قد تكبدهم خسائر فادحة، كما يمكن اعتبار ذلك شكلاً آخر من أشكال فقدان المعيارية وانعدام القدرة على التفرقة بين الصواب والخطأ، حتى أن البعض لم يعد يستخدم كلمة رشوة ويستبدلها بكلمات أقل حِدة مثل “إكرامية”، لكن تغيير المُسمى لا يُغير حقيقة الفعل.
عدم تفعيل قنوات الشكاوى واسترداد الحقوق
يمكن أيضاً إرجاع تفشي ظاهرة الرشوة بهذا الشكل الفَج إلى عدم وجود قنوات شرعية لاسترداد الحقوق أو تقديم الشكاوى في حق الموظفين طالبي الرشوة، حيث أن النسبة الأكبر من المواطنين والمتعاملين مع الجهات الحكومية يجهلون آلية تقديم شكواهم، علاوة على أن مرض الروتين قد تفشى في بدن الجهات الرقابية بقدر تفشيه في بدن الجهات الإدارية، ومن ثم ترى النسبة الأكبر من المتعاملين أن سلك الطرق القانونية سوف يقودهم إلى دوامة طويلة من الإجراءات المعقدة، ولذلك يغضون النظر عنه توفيراً للوقت والجهد.
يمكن اعتبار تعقيد إجراءات تقديم الشكاوى وطول مدة فحصها والبت فيها وحسم الأمور أحد مظاهر الفساد الإداري وضعف الجهاز الرقابي السالف الإشارة إليهما، ومن ثم يكون أحد المسببات الرئيسية لانتشار الرشوة داخل الجهات الإدارية على اختلاف أنواعها.
تردي الأوضاع الاقتصادية
لا يمكن -بأي حال من الأحوال- اعتبار الضوائق المالية مبرراً للفساد أو السلوكيات المنحرفة على اختلاف أشكالها، لكن في ذات الوقت لا يمكن إنكار إنها أحد العوامل المساهمة في تفشي ظاهرة الرشوة وما يشابهها من ظواهر سلبية؛ إذ أن حالة التضخم الاقتصادي التي تشهدها بعض البلاد وما يصاحبها من غلاء في الأسعار وصعوبات في المعيشة قد تدفع ضعاف النفوس إلى الانحراف عند إتاحة الفرصة، خاصة أن الرشوة تعد أموالاً سهلة سريعة الجني.
يُشار هنا إلى أن الرخاء وارتفاع معدلات دخل الأفراد لا يمنع الفساد، بل أن تلك الظاهرة متواجدة حتى في الدول المتقدمة والمصنفة ضمن قائمة أقوى الدول اقتصادياً في العالم، لكن الأمر في النهاية منوط بالنسبة والتناسب، وكلما تردت أوضاع الأفراد المالية بحثوا عن وسائل أخرى لرفع معدلات دخولهم سواء كانت مشروعة أو غير مشروعة.
الخلل الوظيفي وانعدام تكافؤ الفرص
يرى بعض الباحثين أن غياب العدالة وانعدام تكافؤ الفرص بين الموظفين داخل المنشأة الواحدة قد يكون سبباً في تفشي ظاهرة الرشوة وكافة ظواهر الفساد المالي والإداري الأخرى، إذ أن عدد كبير من الموظفين يرون أن حقهم مُغتصب في الترقي ضمن السلك الوظيفي وأن الأقل كفاءة منهم يحصلون على امتيازات هم أحق بها بفعل المحسوبية والوساطة وغير ذلك.
يتجه بعض هؤلاء المظلومين إلى تعويض الامتيازات المالية التي فقدوها بطرق أخرى ومنها تلقى الرشوة، كما أن تفشي الوساطة والمحسوبية تؤدي إلى وضع أشخاص غير مؤهلة في مواقع بالغة الحساسية، وهذا يؤدي إلى إضعاف الهيكل الإداري للمنشأة ويجعل منها بيئة خصبة لتنامي الفساد.
خاتمة
تعد الرشوة الخلية السرطانية الأولى داخل البنيان الإداري ومنها يتشعب الفساد وينتشر ويتخذ أشكالاً مختلفة، ومن المستحيل أن تستقيم الأمور وتتحقق العدالة إلا من خلال القضاء عليها بشكل كامل، خاصة أن ذلك لا يتطلب سوى إنفاذ القانون وتفعيل دور الجهات الرقابية المختلفة في الدولة، قد يبدو الأمر حلماً بعيداً ولكنه بالتأكيد ليس مستحيلاً.