قد كان ينظر المسلمون إلى صلح الحديبية الذي وقع في العام السادس الهجري على أنه إذلالًا لهم ولا يليق بالمسلمين، ولكن مع مرور الوقت وإمعان التفكير تبين أن هذا الصلح له الكثير من الحسنات والنتائج الجيدة التي ظهرت أثارها على التاريخ الإسلامي، فقد كانت فترة الهدنة التي ضمن بنود العقد هي التي جعلت للمسلمين قوة عسكرية لها تأثيرها الجيد، هذا مع إتاحة المجال لنشر الدين الإسلامي وازدياد أعداد المسلمين وتقوى شوكتهم، وهذا ما لم ينظر إليه عمر بن الخطاب وقد غضب غضبًا شديدًا ولكن أبو بكر الصديق هدأ من روعه وأعلمه أن الرسول حق ويعلم ما لا نعلمه، وحدث هذا بالفعل عند فتح مكة واسترجاع حقوق المسلمين التي سلبت وقت خروجهم، ولذلك ومن خلال مقالنا هذا سنتناول الأسباب التي جعلت الرسول يوافق على عقد صلح الحديبية .
عقد صلح الحديبية لأخذ الوقت الكافي لإعداد الجيوش الإسلامية
لم يوافق الرسول على إبرام صلح الحديبية إلا وكان لديه العديد من الأسباب الهامة والتي تخفى عن أعين البشر، وكان من أهمها هو أخذ الوقت الكافي لإعداد الجيوش، حيث أنه طالما يوجد مناوشات ومناورات فبالتأكيد لن يستطيعوا التدريب والتجهيز في ظل هذه الأجواء الخطرة، فقلوبهم تترقب أي هجوم مفاجئ من الكفار أو اليهود المحيطين بهم، ولذلك وافق الرسول على هذا الصلح وبدأ في إقامة معسكرات تدريبية مكثفة، لكي تقوى سواعد الفرسان ويتمكنوا من الصمود أمام الكفار الذين كانت أعدادهم أضعاف أعداد المسلمين، هذا بجانب تصنيع الأسلحة بقدر يكفي العمليات الحربية من رمح وسيف وسهم وقوس ودروع وغيرها، فهم لن يتمكنوا من شرائها لأن العدو لن يعطي شيئًا قد يضره بكل تأكيد، وقد ظهر دور هذا الإعداد جليًا يوم فتح مكة فلم تتجاوز ثلاثة سنوات حتى فتح المسلمون مكة وامتلكوا زمام أمورها، في حين أنه قبل الصلح لم يكن بمقدورهم زيارة البيت الحرام فقط، ولذلك وافق الرسول على إبرام صلح الحديبية .
تركيز الجهاد على الجانب اليهودي
كانت الأوضاع في المدينة متوترة بعض الشيء وذلك بسبب الخيانات التي كان يرتكبها اليهود بحق المسلمين، فكما هو معروف اليهودي بطبعه خائن ولا يحفظ العهود والمواثيق، وكان هؤلاء اليهود متمثلين في بني قريظة وبني قينقاع وبني النضير، وقد كانت من أهم دوافع الرسول لعقد صلح الحديبية هي حفظ السلام مع المشركين والتفرغ الكامل لليهود لتأديبهم لما كانوا يفعلونه فقد ذكرت الكثير من الأحداث التي كان فيها اليهود يريدون قتل النبي الكريم لولا أرادة الله ولطفه على عبده، مثل حادثة الحجر التي حدثت من قبل يهود بني النضير، وقد كانوا يريدون إلقاء حجر من الأعلى على رأس الرسول أثناء جلوسه معهم، ولكن الأخير تنبه لذلك وذهب مسرعًا، وأمر بمحاصرتهم وطردهم من الجزيرة العربية كلها.
وحادثة أخرى من قبل بني قينقاع تجاه امرأة مسلمة كانت تشتري من السوق فقام أحد اليهود بشبك مسمار أو إبرة في أسفل حجابها حتى تساقط وانكشفت عورتها أمام الناس، وتم معاقبتهم وإجلاءهم خارج البلاد، ولا ننسى أيضًا نقضهم للعهد والصلح الذي كان بينهم وبين المسلمين في العام الخامس الهجري، فقد قاموا بالتحالف مع المشركين ضد الرسول في غزوة الخندق أو الأحزاب، كل هذا وأكثر جعل الرسول يفكر في إبرام صلح الحديبية لكي يتفرغ للقضاء على الجانب اليهودي أولًا ثم العودة للنظر في مسألة المشركين ثانيًا.
نشر الإسلام في بقاع الأرض
كان صلح الحديبية له أثر كبير في نشر الإسلام في بقاع الأرض المختلفة، حيث أنه بعد الصلح هدأت الأوضاع الداخلية والخارجية في المدينة ومكة، وذلك لأن الاتفاقية كانت تحمل بند ينص على وقف القتال والمناوشات لمدة عشرة سنوات، ولكن هذا البند قد نقض بعدها بعامين تقريبًا بعدما أغارت قبيلة بني بكر التي دخلت في حلف المشركين على قبيلة بني خزاعة التي انضمت للمسلمين، عامة خلال هذين العاميين عمل النبي الكريم وأصحابه على نشر الإسلام في مناطق متعددة بجانب المدينة، فقد قام الرسول بإرسال بعض الكتب إلى حاكمي الفرس والروم، ملك اليمن، والحبشة، وغيرها من المدائن، وبالفعل قد تم الاستجابة في بعض الأماكن والرفض من الأخرى، ولكن مع تزايد أعداد الجيوش الإسلامية وزيادة خبرتها وقوتها استطاعت فتح العديد من البلدان بجانب مكة التي فتحت بعد صلح الحديبية بعامين فقط، وقد كان المسلمون وقتها في أوج قوتهم فلم يستطيع المشركين صدهم أو الوقوف في وجههم من الأساس، بل قد لجؤوا إلى دارهم ودار سفيان بن حرب والكعبة، ولم يقم النبي الكريم بفعل أي أذى لهم حتى انضموا للإسلام رغبة لا رهبة.
صلح الحديبية حقنًا لدماء المسلمين وقتها
كان المسلمون أثناء مسيرهم إلى مكة لا يتجاوزون الألف ونصف ولا يحملون معهم سوى بعض الأسلحة البسيطة جدًا وهذا يدل على عدم عزم المسلمين على القتال، بل هم خرجوا لحج البيت الحرام كما أمرهم النبي فقط ولكن مشركي مكة لم يصدقوا هذا القول وكانوا عازمون على القتال، وعندما أرسل النبي محمد رسوله عثمان بن عفان إليهم ليخبرهم بما جاء به وأنه لم يأت لقتال بل للحج فقط، ولكنهم للأسف قد حبسوا عثمان وقد أشيع في المسلمين انه قتل فتجهز المسلمون لدخول مكة بالقوة نظير ما حدث منهم، ولكن انتهت الأمور بالسلم وبعقد صلح الحديبية الذي رأى فيه الرسول أنه اسلم للمسلمين من الدخول في حرب لم يكن مستعدًا لها ولم تكن عتادهم من الأسلحة يكفي للمواجهة أيضًا، هذا بجانب أن النية كانت مبيته للعمرة فقط، ولذلك تم عقد الصلح الذي لم يكن يروق للكثير من المسلمين ولكن النبي عليه السلام كان لديه وجهة نظر عميقة قد عرفها الصحابة فيما بعد، واهم نتائجه هو فتح مكة بعدها بعامين فقط.
اعتراف المشركين بقوة الدولة الجديدة
دائمًا ما تعقد المعاهدات بين عدوين متقاربين في القوة والعتاد وتعترف كل دولة أو فرقة منهما بكيان الطرف الأخر وهذا ما نعده من أسباب عقد صلح الحديبية ، حيث أنه عند عقد الصلح سيعترف بكيان المسلمين ودولتهم الجديدة بعدما كانت قريش تنظر إليهم نظرة الضعفاء واللاجئين ولا قوة لهم ولا بأس، ولكن بعد الصلح أصبحت القوى متقاربة وتعترف كل القبائل الموجودة في المنطقة من القرشيين وغيرهم بكيان واستقلال المسلمين، وبذلك تغيرت الكثير من الحسابات والخطط والنظرات، وهذا الشيء بعدما تحقق أصبح من إنجازات المسلمين في هذه الحقبة الزمنية الصغيرة.
ختامًا
كان المسلمون ينظرون للصلح بأنه إهانة لهم ومن الواجب عليهم عدم قبوله وهم أهل الحق والنور، ولكن النبي عليه السلام كان ينظر للأمد البعيد ويعرف حقيقة الأمر وما سيتم بعد هذا الصلح، وبالفعل ظهرت نتائجه سريعًا وكبر الكيان الإسلامي وازداد عددًا، وكان للنبي وأصحابه متسعًا كبير من الوقت للدعوة للإسلام، ولذلك وافق الرسول على صلح الحديبية.
الكاتب: أحمد علي