خيم الحزن على الدول العربية في 28 نوفمبر من العام الحالي 2017 بعد توارد نبأ رحيل الفنانة شادية ، فرغم أنها قد اعتزلت حياة الأضواء قبل سنوات طويلة إلا أنها لم تغب عن أذهان الجماهير لحظة واحدة، وستبقى مُخلدة في الوجدان العربي أمد الدهر، وحالة الحزن هذه إن دَلت على شيء فإنما تدل على المكانة التي كانت تحظى بها شادية في القلوب وحجم الجماهيرية التي كانت تتمتع بها لدى جميع الأجيال.. فترى ما السر في ذلك؟ ولماذا تعد الفقيدة واحدة من أعظم الفنانات العرب؟
تأثير الدلوعة شادية في مجال الفن :
أُطلق على شادية ألقاب فنية عديدة منها دلوعة السينما وكذلك معبودة الجماهير وغيرها من الألقاب التي طالما عبرت بها الجماهير عن إعجابها وعبر بها النقاد عن تقديرهم، وتلك الألقاب لم تأت من فراغ بالطبع بل هي نتاج تفرُد هذه الفنانة والذي من أبرز مظاهره الآتي:
قدمت أنجح الثنائيات في السينما العربية :
تعتبر الثنائيات من الظواهر الفنية الشائعة في السينما العربية والأمثلة على ذلك بالغة التنوع والتعدد، ورغم كثرة محاولات تكوين الثنائيات في عالم الفن السابع إلا أن عدد قليل منها هو من كُتب له النجاح وبالتالي الاستمرار، حتى أن بعض الفنانين -رغم براعتهم- أفنوا عمرهم كله دون أن يتمكنوا من تكوين ثنائي مع شريك فني آخر. لكن فيما يخص الفنانة الاستثنائية شادية فإنها لم تكتف بثنائي واحد بل أنها كونت فريقاً فنياً مع اثنين من أبرز ممثلين زمن الفن الجميل وهما الفنان كمال الشناوي والفنان صلاح ذو الفقار.
قدمت شادية مع كمال الشناوي أكثر من ثلاثين فيلماً من أبرزهم “وداع في الفجر، ساعة لقلبك، ارحم حبي، المرأة المجهولة، اللص والكلاب”، كما رأى بعض النقاد أن وصف الأدق لأغلب أفلام دلوعة السينما مع كمال الشناوي هو أفلام الثلاثي بعد إضافة الممثل الكوميدي إسماعيل يس إليهما كونه شارك النسبة الأكبر من الأفلام التي جمعت بينهم.
كان النجم صلاح ذو الفقار هو الزوج الثالث لشادية واستمرت علاقتهما حتى أواخر التسعينات، وخلال تلك الفترة كونا ثنائياً فنياً ورغم أن لم ينتج عن ذلك التعاون سوى أربعة أفلام فقط إلا أن الإنجاز الحقيقي يتمثل في كون تلك الأعمال من أشهر الأفلام التي قُدمت في تاريخ السينما المصرية وهم “كرامة زوجتي، أغلى من حياتي، عفريت مراتي، مراتي مدير عام”.
منحت الأدوار النسائية أهمية خاصة :
عانت الشخصية النسائية في السينما المصرية من التهميش، فقد كانت البطولة في أغلب الأعمال من نصيب الرجال بينما الشخصيات النسائية تكون ثانوية أو في مرتبة أقل أهمية، فهي غالباً مجرد فتاة جميلة يهيم بها البطل حباً وأحياناً تكون عشيقته أو زوجته أو غير ذلك، دون أن يكون لها تأثير قوي ومباشر على مجرى الأحداث.
كانت شادية واحدة من الفنانات القلائل ممن تمكن من التمرد على ذلك العرف السائد وتشاركها في ذلك -فاتن حمامة وسعاد حسني- حيث استطاعت بحضورها الطاغي وموهبتها الفريدة أن تمنح أدوارها بريقاً خاصاً، فأصبحت تنافس كبار نجوم ذلك الزمن وتهدد عروشهم، وكان لها حضوراً قوياً بالأعمال التي قدمت بها أدواراً ثانية أو ثالثة مثل “شباب امرأة”، أما بالأفلام التي قدمت بها دور البطولة فكان يصعب على المشاهد تحديد إن كان فيلماً مثل “الزوجة 13” ينسب إلى بطلته أم إلى بطله رغم أن البطل هنا هو الدون جوان رشدي أباظة، والأمر نفسه بالنسبة لفيلم “الستات مايعرفوش يكدبوا” هل ينسب في المقام الأول لشادية أم لشكري سرحان الذي كان آنذاك أحد أهم نجوم السينما!..
استطاعت شادية أن تقف على قدم المساواة مع كل أبطال أعمالها، لا عجب في أن النسبة الأكبر من أفلامها تندرج تحت تصنيف البطولة المشتركة، بما في ذلك أفلام مثل “معبودة الجماهير” الذي كان البطل به نجم الشباك الأول في هذا الزمان وهو عبد الحليم حافظ صاحب الشعبية الجارفة، كما كانت من الأسماء النسائية القليلة التي تصدرت التترات وملصقات الدعاية والإعلان السينمائية مُنفردة.
الأحق بلقب “فنانة شاملة” :
تم منح لقب فنانة شاملة لعدد غير قليل من الفنانين سواء العرب أو العالميين وذلك اللقب يقصد به أن الفنان يمتلك قدرات خاصة تمكنه من تقديم ألواناً فنية متنوعة مثل التجسيد التمثيلي وأداء الأغنيات والرقصات الإيقاعية وغير ذلك، ذلك اللقب أُطلق على شريهان وكذلك نيللي ومن قبلهما سندريلا الشاشة سعاد حسني ورغم براعتهن وتاريخهن الفني الحافل بالأعمال الناجحة والخالدة تبقى شادية هي الأحق بذلك اللقب.
لم يتمكن أحد حتى اليوم من تصنيف شادية هل هي ممثلة قدمت أعمالاً غنائية أم أنها مطربة اتجهت للتمثيل؟، وذلك لأنها أتقنت كلا اللونين الفنيين وتفوقت على المتخصصين في كل منهما ممن عاصروها وممن ظهروا بعد اعتزالها، ولعلنا سوف ننتظر طويلاً قبل أن نرى موهبة أخرى بهذا التكامل، تجيد الطرب لدرجة تمكنها من تقديم مختلف أنواع الأغاني ابتداءً من الاسكتشات الكوميدية مثل “يا سلام على حبي وحبك” ومروراً بالأغاني الدرامية مثل “وداع”، و”سيد الحبايب” ووصولاً إلى الأغاني الدينية والوطنية، وتجيد تجسيد مختلف الشخصيات وتقديم جميع الأنواع الدرامية بذات الدرجة من الإجادة.
التوازن بين الكم والكيف :
كانت شادية من الفنانات ذوات الإنتاج الغزير؛ حيث تجاوز رصيدها السينمائي 100 فيلماً بالإضافة إلى نحو 10 أعمال إذاعية وعملاً مسرحياً واحداً، لكن ما يميز معبودة الجماهير عن غيرها من الفنانات أنها كانت براعة في إحداث توازناً بين الكم والكيف، أي أن رغبتها في تقديم المزيد من الأعمال الفنية لم يؤثر على جودة اختياراتها، ودليل ذلك أن النسبة الأكبر من أعمال شادية السينمائية تصنف ضمن قوائم أفضل وأشهر الأفلام العربية.
يشار هنا إلى أن شادية قد قدمت عملاً مسرحياً واحداً هو مسرحية ريا وسكينة والتي تصنف اليوم كواحدة من أفضل خمس مسرحيات كوميدية، ولا تزال تحظى بنسب مشاهدة مرتفعة رغم عرضها مئات المرات.
تنوع تصنيف الأعمال التي قدمتها :
اتسمت أعمال شادية الفنية بدرجة كبيرة من التعدد والتنوع وهو الأمر الذي مكنها من تحقيق قاعدة جماهيرية أكبر من أي فنانة أخرى، حيث أن كانت أعمالها مرضية بالنسبة لمختلف الميول والأذواق، والأمر مُبهر هنا هو أن الفنانة القديرة قد أجادت تقديم مختلف الألوان الفنية بنفس الدرجة ولم تحصر نفسها في لون إبداعي محدد مثلما حدث مع النسبة الأكبر من أبناء جيلها.
قدمت شادية عدداً كبيراً من الأفلام الرومانسية الغنائية التي شاركها في بطولتها أبرز مطربي تلك الفترة مثل محمد فوزي وعبد الحليم حافظ وفريد الأطرش، كما برعت في تقديم الأفلام الدرامية وتجسيد الشخصيات المركبة شديدة التعقيد ومن أبرزها أفلام “المرأة المجهولة” و”لا تسألني من أنا”، هذا إلى جانب مجموعة كبيرة من الأفلام الكوميدية والاجتماعية، وقد كانت أغاني شادية على ذات القدر من التنوع.
صوت مصر ورمزها :
جسدت شادية شخصية مصر في العديد من الأفلام أبرزها شخصية فؤادة في فيلم شيء من الخوف الذي أثار جدلاً واسعاً عند عرضه بسبب الرمزيات التي تضمنها، كما أنها أنشدت مجموعة من أبرز الأغاني الوطنية التي يعد عرضها -حتى اليوم- أحد مراسم الاحتفال بالأعياد القومية المختلفة، مثل ذكرى حرب أكتوبر وعيد تحرير سيناء وتستخدم أيضاً في إحياء ذكرى الأحداث التي لم تعاصرها تلك الأغاني مثل ثورة 25 يناير وثورة 30 يونيو.
كل ذلك كان سبباً في اعتبار شادية صوت مصر الشادي علاوة على أنها رمزاً فنياً يفتخر به كل مصري وعربي وسيبقى هذا الرمز خالداً في وجداننا رغم رحيل صاحبته المُبدعة والمُلهمة.