سعد زغلول هو اسم لابد من التوقف عنده عند دراسة التاريخ، فهو منضال من طراز فريد، فـ سعد زغلول هو قروي بسيط، حصل على لقب البشوية بصفة رسمية، وتقلد أعلى المناصب في الدولة، وتزوج من ابنة رئيس وزراء مصر، وكل ذلك لم يغيره يوماً ولم يؤثر على مبادئه، فظل طوال حياته واقفاً إلى حيث ينتمي، إلى جانب البسطاء والمهمشين والعامة، يدافع عن حقوقهم وينادي بحق الوطن في الاستقلال، فاستحق وحده وعن جدارة أن يكون للأمة المصرية زعيماً.
سعد زغلول .. الزعيم الخالد :
ثورة 1919م والنفي خارج الوطن، هما الحلقتان الأشهر في سلسلة نضال سعد زغلول ،لكن السلسلة مديدة وبدأ نضاله في وقت مبكر جداً من حياته، وتعددت صور تصديه للظلم ومناصرته للحق، فما سيرته وكيف حقق ذلك ومتى بدأ وكيف انتهى؟
الميلاد والنشأة :
شهد مركز فوة والمعروف حالياً بمركز مطوبس ميلاد سعد زغلول ،وقد حينها تابعاً لمديرية الغربية والآن هو تابع إيدارياً لمحافظة كفر الشيخ، وقد اختلف المؤرخون حول العام الذي شهد ميلاد زعيم الأمة سعد زغلول، فمنهم من أقر بإنه كان في شهر يوليو لعام ض 1857م، ومنهم من قال بأنه كان بعد عام من ذلك أي في يوليو 1858م، بينما الوثائق الرسمية التي وجدت في سجلاته بالجامعة، فكانت تشير إلى تاريخ ثالث وهو يونيو 1860م، وهذا الاختلاط أمر طبيعي، فلم يكن الناس في ذلك الزمان يأبهون كثيراً بتسجيل ابناءهم بالسجلات الرسمية فور الميلاد، وعلى كل حال قد ولد الزعيم سعد زغلول لأب يرأس مشيخة القرية، إلا أن والده قد توفي وهو في الخامسة من عمره تقريباً، ومنذ ذلك الحين عهد بتربيته إلى خاله.
ذاك الشبل تلميذ الأسود :
أحسن الخال تربية الشقيقين فتحي و سعد زغلول بعد وفاة الأب، واهتم بأن يرسلهم لتلقي العلم بمختلف مراحله، وكانت البداية من كتاب القرية، الذي اتقن سعد زغلول من خلال دراسته به تلاوة القرآن الكريم، وكذلك تعلم القراءة والكتابة وتعرف على أسس العمليات الحسابية، ثم بعد ذلك التحق بالجامع الدسوقي كمرحلة دراسة انتقالية، تعلم خلالها تجويد القرآن وتلقى دورساً في الفقه والسنة، ثم في عام 1873م التحق بالأزهر، وكانت هذه نقطة التحول الأهم في مسيرة الزعيم سعد زغلول، ففي الأزهر التقى بالرجل الإصلاحي العظيم الإمام محمد عبده، والذي كان يعرب بوطنيته وتبينه للآراء الإصلاحية، وتقرب سعد زغلول منه واتخذه من الإمام مثل أعلى له، وفي حلقات علم الإمام محمد عبده، التقى سعد زغلول بصحبة رائعة، ممن صاروا في وقت لاحق من أعظم المفكرين والأدباء ورجال السياسة والدين المصريين، وأبرزهم قاسم أمين الذي ربطته به علاقة صداقة وطيدة.
كذلك التقى سعد زغلول خلال مرحلة دراسته بالأزهر الشريف، بالشيخ جمال الدين الأفغاني، وتأثر كثيراً بشخصيته ورؤيته ووطنيته، ويعتبرا جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، أهم المساهمين في تشكيل شخصية سعد زغلول ،الذي صار فيما بعد أحد أبرز الشخصيات في تاريخ مصر، واستحق عن جدار حمل لقب زعيم الأمة.
محرر الوقائع المصرية :
جريدة الوقائع المصرية لمن لا يعرفها، هي واحدة من أهم الإصدارات التي طبعت في تاريخ مصر، وكان إصدارها الأول بأوامر من والي مصر محمد علي باشا في 1828م، ثم تولى الإشراف عليها والعمل بها العديد من رواد النهضة العربية، من أمثال رفاعة الطهطاوي وجمال الدين الأفغاني وغيرهما الكثير، كما كانت تتبنى شباب الموهوب والمتميز، وما كان القائمون عليها ليغفلوا موهبة كموهبة سعد زغلول ،الشاب الذي ترعرع فكره على أيدي محمد عبده والأفغاني، فشب متقناً لفنون اللغة العربية ممسكاً بناصيتها، خطيباً بارعاً وسياسياً واعياً ووطنياً مخلصاً، فأتيحت له فرصة نظم المقالات على صفحات الوقائع المصرية، وكان يعبر عن رأيه بحرية وشجاعة، وعُرف عنه منذ شبابه إنه لا يخشى في الحق لومة لائم، ففطن أساتذته إن تلميذهم النجيب هذا سيكون له شأن عظيم في المستقبل، وكذلك سيتعرض للكثير من المتاعب بسبب مناصرته الدائمة للحق.
سعد زغلول والثورة العرابية :
الزعامة هي صفة أصيلة لا تكتسب بمرور الزمن، فالزعامة أمر لا يمكن أن يكون أبداً من قبيل الصدف، وقد تجلت قدرات سعد زغلول الزعامية وإخلاصه لوطنه وحبه له مبكراً، وتحديداً في زمن ثورة القائد المصري أحمد عرابي، وبداية الاحتلال الانجليزي لمصر.. لم يحمل سعد زغلول سلاحاً ولم يطلق الرصاص، لكن ما فعله لم يكن أقل أثراً من ذلك، فقد أمسك بقلمه وأبى أن يستتر وراء اسماً مستعاراً، أو أن يكتب منشورات سريعة خالية من التوقيع، بل إنه هاجم الاحتلال علانية على صفحات الجرائد معلناً رأيه، وكان يلهب حماس الجماهير ويحثهم على التصدي للاحتلال.
تشكيل الوفد المصري :
منذ بدء الاحتلال البريطاني لمصر وحتى وفاة سعد زغلول ،لم يتوقف يوماً واحداً عن النضال والمناداة بحق مصر في الاستقلال، لكن يبقى تشكيل الوفد المصري برئاسته، هو الحدث الأبرز في مسيرة سعد زغلول النضالية، ولعله العامل الأساسي في حمله للقلب زعيم الأمة.. فكرة تشكيل الوفد المصري جاءت بعد اندلاع الحرب العالمية الأولى، التي تم خلالها إعلان وضع مصر تحت وطأة الحماية البريطانية، وقامت قوات الاحتلال باستغلال موارد الوطن المصري خلال حربها، فرأى سعد زغلول ورفاقه أعضاء الجمعية التشريعية إن الكيل قد طفح، وخاصة زميليه علي شعراوي وعبد العزيز فهمي، فعقدوا مقابلة مع المندوب السامي البريطاني، أعلاناه خلالها رفضهم لسياسات الإنجليز بمصر، وعقب هذه المقابلة بدأت حملة شعبية لجمع التوقيعات، للتدليل على إن الوفد الراغب في السفر إلى مؤتمر الصلح، وتقديم المطالب المصرية والدفاع عن حقها في الاستقلال، هو ليس وفد يعبر عن آراء أفراده إنما هو يمثل الشعب المصري بأكمله.
ثورة 1919م :
يشاع إن سعد زغلول هو زعيم ثورة 1919م، وذلك انتقاص واضح وظلم بين لحق الثوار الحقيقيون، فـ سعد زغلول كان سبباً وشرارة اندلاع الثورة، لكنه لم يكن زعيماً لها، بل كان زعيمها وقائدها هو المواطن المصري البسيط، الذي انتفضت من أجل وطنه في المقام الأول ومساندة سعد زغلول في المقام الثاني، فقد قامت قوات الاحتلال البريطاني باعتقال سعد زغلول وزملائه، وقرروا أن يقوموا بنفيهم إلى خارج البلاد، وظنوا إنهم بذلك سيريحون أنفسهم من الإزعاج الذي يسببه لهم، ولم يدركوا إنهم بذلك قد فتحوا على أنفسهم أبواب الجحيم، فقد انتفض الشعب بكافة طوائفه ضدهم، وبين ليلة وضحاها كان هتاف الشعب المصري يرج جنبات الكون، ولعبت أم المصريين السيدة صفية زغلول دوراً هاماً في الحشد، وحث الجماهير على المشاركة في المظاهرات والإضرابات، التي انتقلت بسرعة البرق من القاهرة العاصمة إلى مدينة الإسكندرية، ثم إلى الأقاليم وبليلة واحدة صارت مصر كلها على قلب رجل واحد، تنادي بهتاف واحد، هو الحرية لسعد زغلول والاستقلال للوطن والموت للإنجليز، ورغم تعامل القوات البريطانية مع تلك المظاهرات بعنف شديد، وسفكها لدماء المتظاهرين، إلا أن شئ لم يرجعهم واستمرت حدة الثورة في التصاعد، إلى أن اضطرت الحكومة البريطانية للإفراج عن أعضاء الوفد المصري، وعلى رأسهم زعيم الأمة سعد زغلول ،في محاولة يائسة لإعادة الأوضاع في مصر إلى هدوءها السابق.
تشكيل الحكومة :
عاد سعد زغلول إلى وطنه ولم يخذل ابناء شعبه، الذين وضعوا ثقتهم فيه وساندوه في محنته، فاستمر في نضالة ضد الاحتلال بعدة أشكال، وفي ظل أحكام الدستور المصري الصادر في 1923م، فاز مؤيدو سعد زغلول بحوالي 200 مقعد من مقاعد مجلس النواب، واكتسح أحدهم الدائرة التي كان ينافسه عليها رئيس الوزراء يحيي باشا إبراهيم، ومن ثم صار من حق أنصار سعد تشكيل الحكومة، التي تولى هو بنفسه منصب رئيسها، فصار له بذلك منصب رسمي يسهل عليه القيام بمهامه النضالية، التي استهلها بحركة تنقلات واسعة في الجهاز الإداري للدولة، ليطهره من الفاسدين والمواليين للسرايا وقوات الاحتلال الانجليزي، وكان سعد زغلول يعبر عن ذلك صراحة وعلى الملأ، بقوله: إنه يريد لوزارته أن تكون زغلولية لحمة ودماً.
عاش الزعيم ولم يمت :
في أغسطس عام 1927م توفي الزعيم سعد زغلول جسدياً، لكن نضاله وأفكاره التي غرسها في نفوس الشعب لم تمت، فتولى مصطفى باشا النحاس اللواء من بعده، كما استمرت السيدة صفية زغلول في مسيرتها النضالية التي شاركت زوجها إياها طيلة حياته، وظل الشعب المصري يهتف باسمه وينادي بحقه في الاستقلال، ومات بذلك حلم الانجليز بإيقاف المفاوضات، التي ظنوا بإنها ستموت بموت سعد زغلول ،لكنهم صدموا بحقيقة إن أجساد الزعماء المخلصين تموت لكن أرواحهم تبقى محلقة في سماء الأوطان.