حجة الوداع سميت بذلك لإنها كانت آخر حجة للنبي عليه الصلاة والسلام، كما كانت حجة الوداع هي الأولى له بعد فتح مكة، وقد جمع النبي الكريم صلى الله عليه وسلم صحابته ومرافقيه في ذلك اليوم، وخطب فيهم خطبة سُميت هي الأخرى فيما بعد باسم خطبة الوداع، والتي تعد واحدة من أهم الأحداث في التاريخ الإسلامي، وسميت بالوداع أيضاً لإن الرسول عليه الصلاة والسلام قد ودع خلالها الناس، وتعد حجة الوداع واحدة من أهم وأبرز الأحداث في تاريخ الإسلام وفي سيرة النبي عليه الصلاة والسلام.. لماذا ؟
حجة الوداع .. قواعد ودروس وعبر :
أهمية الأحداث لا تنبع من الحدث ذاته، إنما تُتسمد من آثاره ونتائجه التي جاءت مترتبة عليه، و حجة الوداع وخطبتها قد قام خلالها النبي بإرساء مجموعة من القواعد العامة الهامة، والتي يجب أن يحرص عليها المسملون من بعد وفاة النبي عليه الصلاة والسلام، فما هي تلك القواعد وما الدروس المستفادة من حجة الوداع ؟
الخلاص من براثن الجاهلية :
خطبة الرسول الأمي الكريم محمد عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع ،كانت بمثابة تلخيص جامع جامع لكافة مفاهيم وتعاليم الدين الحنيف، الذي أرسل به خاتم المرسلين وكُلف من الله عز وجل بتبليغه، وجاء ذلك بوصاياه عليه الصلاة والسلام بالتخلص من براثن الجاهلية، وإن كل ما شهده عصر الجاهلية من تعصب وإراقة للدماء هو ليس من الإسلام في شئ، وإنه مُحرم وإن العذاب عاقبة مرتكبها، فعلى سبيل المثال الثأثر الشخصي واستباحة الدماء هي من أفعال الجاهلية، وإن المجتمع لا يكون مسلماً فقط بإقامة الصلاة والصيام وممارسة الشعائر، إنما يجب أن تكون سلوك المجتمع ككل متفقة مع تعاليم الإسلام وسماحته، كذلك تم النهي عن ممارسات الجاهلية الممثلة في الربا، واستحلال أموال اليتامى أو الظلم أو التمييز الطبقي بين الناس.
حقوق المرأة :
في زمننا المعاصر يعجب الخلق بمن يدعون إلى تحرير المرأة، ويقولون عنهم إنهم أشخاص مثقفين تنويريين، ورغم تقديرنا لمجهودات هؤلاء في إصلاح المجتمع، إلا إننا يجب ألا نغفل إن الإسلام أول من دعا إلى حقوق المرأة، ويتجلى ذلك بما ذكره الرسول عليه الصلاة والسلام صراحة بـ حجة الوداع ،والتي تضمنت خطبتها الوصية بالنساء خيراً، فقد كانت النساء في زمن الجاهلية تورث كما الأملاك، وكانت مسلوبة الحقوق فلا رأي لها ولا ذمة مالية ولا قيمة، ولكن خطبة حجة الوداع وُصِفن النساء بها بإنهن “أمانة الله”، فمن ذا الذي يجرؤ على إهدار أمانة الله المودعة لديه؟!.. وإن ذلك التعبير الموجز البليغ هو خير تكريم للمرأة وتكليف مباشر للرجل، فعليه أن يعاشرها بالمعروف أو أن يكون الطلاق بإحسان، وأن يؤدي إليها حقوقها ويتق الله فيها.
علاقة الحاكم والمحكوم :
أمر آخر تكثر الأحاديث حوله ويثار حوله الجدل دوماً، وتعقد المؤتمرات ويهلل الساسة ويعقدن الاجتماعات لوضع الدساتير، وذلك كله بهدف تنظيم العلاقة الرابطة بين الحكام والمحكومين، والتوصل لما على كل طرف من واجبات وما عليه من حقوق، وهذا أمر آخر قد ورد ذكره ضمن خطبة الرسول في حجة الوداع ،إذ وضع بذلك أول دستور منظم لتلك العلاقة في التاريخ، ففي الجاهلية لم يكن هناك تنظيماً لهذه العلاقة، بل إن العامة كانوا لدى الحاكم بمثابة العبيد، يتحكم بهم ويورثم لخلفه ولا حقوق لهم لديه، أما تعاليم الإسلام جاءت بما ينافي ذلك، ويرد إلى المستضعفين حقوقهم في بلادهم، وإن الحاكم بحسب تعاليم الإسلام وبحسب ما ورد في حجة الوداع ،هو الشخص القائم على رعيته، أي يرعى مصالح الأمة ويحافظ على وحدتها وأمنها، ولكنه ليس مالك لهم ولا يستعبدهم، وقد ألزم الرسول الكريم العامة بضرورة إطاعة الحاكم والسماع له، ولكن هذا مشروطاً بقوله صلى الله عليه وسلم “يحكمون فيكم بالكتاب والسنة”، أي إن شرط الطاعة لا يكون إلا للحاكم العادل الملتزم بتطبيق تعاليم الدين الإسلام، أما إن خرج عن ذلك فبطش وتجبر فلم تعد طاعته واجبة.
نبذ العنصرية والطبقية والتمييز :
خطبة النبي الكريم في حجة الوداع لم تكن مجرد خطبة أو موعظة، بل إن الناظر لها بتمعن سيجد لها العديد من الجوانب، واحدة منها إنها تعد بمثابة أول وثائق حقوق الإنسان، فتضمن الخطبة الملقاة في حجة الوداع ما يحث على الاتحاد والوحدة، وينهى عن التناحر والتنازع والصراعات، وذلك لإن وحدة الأمم هي أولى أسباب تماسكها وقوتها، وقد قال النبي الكريم وورد ذات المعنى في آيات القرآن الكريم، إن خير الناس لدى الله عز وعلا أكثرهم تقوى، ومن ثم فإن ذلك يجعل من تقوى الإنسان وطاعته لربه هي عامل التمييز الوحيد، وهو عامل يفصل فيه الله المطلع على القلوب والنواية يوم القيامة، ومن ثم فلا يحق للبشر التفرقة أو التمييز بين الناس على أية أسس، فالناس جميعاً في الإسلام سواسية كأسنان المشط، فالمسلمون جميعاً أخوة لا فرق بين عربي وأعجمي منهم، ولا فرق بين أسود أو أبيض كذلك أزال الإسلام الفوارق الطبقية، والتي كانت واحدة من أبرز صفات المجتمع في العصور الجاهلية.
يبعث المرء على مات عليه :
من أهم الأمور التي بلغتنا عن خطبة النبي في حجة الوداع ،هي إن الإنسان يبعث يوم القيامة على النوايا والهيئة التي توفي عليها، فقد توفي أحد الصحابة وهو في طريقه لأداء فريضة الحج، فأسقطته الدابة التي كان يمتطيها ووكزته بقدمها فمات، فأمر النبي الكريم الصحابة بعدم تطيبه أو تغطية رأسه، إنما أخبرهم بتغسيله وتكفيته ثم دفنه، وذلك لإنه يوم القيامة سيُبعث ملبياً، إي إنه مات وهو ينوي تلبية نداء الله تعالى لحج البيت، وهو أمر مؤكد بالحديث النبوي الآخر القائل “العبد يبعث على ما مات عليه”، فندعوا الله عز وجل على أن يقدرنا على طاعته وحسن عبادته، وأن يجعل خواتيم أعمالنا هي أفضلها حتى نبعث عليها في يوم الحساب الذي لا ريب فيه.
لا صوم للحاج رحمة من الله :
صوم يوم عرفة له فضل عظيم ترى أغلب المسلمون يحرصون عليه، ولكن ذلك لا يكون إلا لمن لم يمن المولى عليهم بأداء الفريضة العظيمة، أما من انتقلوا إلى البيت الحرام لأداء مناسك الحج فلا يجوز صيامهم بيوم عرفة، وهذا أيضاً من التعاليم التي نستمدها من حجة الوداع ،والتي أوردها الإمام الألباني في كتابه حجة النبي، والذي ضمنه حوالي 72 قاعدة فقهية استنبطها من حجة الوداع ..وقد أورد الإمام البخاري في صحيحه حديث منسوب إلى السيدة ميمونة زوجة النبي عليه الصلاة والسلام، مفاده إن الناس يوم حجة الوداع قد اختلفوا حول صيام النبي ليوم عرفة، فمنهم من قال بإنه حرص على صيامه ومنهم من قال بإنه فطر به، وحين وقف النبي الكريم بين الجمع طلب أن يأتيه أحد بإناء لبن، ثم تناوله كاملاً أمام الجمع ليعلمهم بإنه قد أفطر يوم عرفة وهو حاج، ويعلنهم بإن صيام الحجاج ليوم عرفة هو أمر غير جائز في الإسلام، وتبين لنا من ذلك الأمر مدى رحمة الخالق تعالى بعباده، فإن مراسم الحج والوقوف بعرفة ستكون شاقة على الإنسان إذا كان صائماً، ولهذا نهانا الله عن صوم ذلك اليوم إشفاقاً علينا ورحمة بنا، أما غير الحجاج فلا ضير من صيامه، لينالوا نصيباً من فضل ذلك اليوم العظيم عوضاً عن تفويتهم لفريضة الحج.