جاليليو جاليلي هو أحد أبرز العلماء في التاريخ الإنساني، وساهم مع رفاقه في انتقال قارة كاملة من الظلمات إلى النور، هي قارة أوروبا، التي عاشت في القرون الوسطى حالة من التدهور بمختلف القطاعات، وبخاصة القطاعين الثقافي والعلمي، وإسهامات جاليليو جاليلي في هذا الصدد لا تقتصر على إسهاماته العلمية، بل كذلك ثباته على مبدأه ودفاعه عن نظرياته، شكل إلهاماً بالنسبة لمن عاصره ومن خلفوه من علماء، وبحسب ما أورده المؤرخ جاكوب برونسكي بكتبه، فإن محاكمة جاليليو جاليلي كانت سبباً في إشعال فتيل الثورة العلمية الكبرى.
جاليليو جاليلي .. من ظلم وحتى البراءة :
لو عاش جاليليو جاليلي في زمن غير زمنه، لاستقبلته قصور الحكام بحفاوة وانحنوا له احتراماً، لكن كان قدره أن يأتي في زمن التخلف والجهل، والذي كان العلم فيه بالنسبة للحكام عدواً لدوداً، الأمر الذي جعل جاليليو جاليلي بالنسبة له خصماً شرساً، ظنوا أنهم انتصروا عليه في عصره، لكن الانتصار الأكبر كان من نصيبه.. الانتصار الذي تم بعد رحيله.
صراع العلم والحكم الديني :
استعراض صراع جاليليو جاليلي مع الكنيسة، لا يمكن أن يتم بعيداً عن استعراض مقومات عصره، والتي اتسمت باحتدام الصراع بين أهل العلم ورجال الكنيسة، إذ كانت الأخيرة في تلك الفترة هي المسيطرة على مقاليد الحكم، وكما هو معلوم فإن نظام الحكم الذي يستمد شرعيته من شرعية الدين، يرفض المعارضة ويقمع الأصوات القائلة بغير أحكامه وقوانينه، بل أن تحقيق تلك الغاية هي السبب الأول لاحتمائه بستارة الدين، فهذا يتيح له أن يتعامل باعتباره خليفة الإله الأوحد بالأرض، وكذا يتيح له توزيع التهم كيفما يشاء على معارضيه، فباعتباره ممثلاً للدين يكون كل رافض له رافض للدين، فيحق عليه العقاب، ولأن العلماء شكلوا النسبة الأكبر من قوى المعارضة في ذلك الزمان، فقد كان لهم أيضاً النصيب الأكبر من العقاب، الذي كان يوقع عليهم بالطبع بعد اتهامهم بالخروج من الملة والهرطقة.
جاليليو جاليلي ومركزية الشمس :
صدق أو لا تصدق فإن تهمة جاليليو جاليلي هي “مركزية الشمس”!!.. نعم، تلك النظرية التي درسناها مراراً في المراحل الدراسية المختلفة، والتي انتشرت واشتهرت حتى صارت من البديهيات، كانت في زمن جاليليو من الأمور الغريبة صعبة التصديق، ولكن التهمة لم يكن مبعثها الأتيان بما هو مخالف للواقع، بل كان أتيانه بما يخالف ما يقوله الرهبان والحُكام، الذين آمنوا بأن كوكب الأرض هو مركز الكون، وكانوا يستندون في ذلك إلى النظريات اليونانية وخاصة نظرية أرسطو.
جاليليو والإثبات العلمي :
استمات جاليليو جاليلي في الدفاع عن أفكاره وأفكار كوبرنيكوس، العالم البولندي الذي يعد من واضعي أسس علم الفلك الحديث، وكان دفاعه مبني على أدلة وبراهين علمية، ورغم ذلك رفض الحكام أن يخرج على العامة من يشكك في أقوالهم، إذ أن قوة نظامهم الحاكم كانت تعتمد على مصداقيتهم لدى العامة، وتسليمهم بصدق وصحة كل حرف يتفوهون به، ولما عجزوا عن مجاراته في النقاش، والأتيان بما يبرهن صحة نظرياتهم حول دوران الأرض ومركزيتها، اتجهوا للحل الأسهل وهو اتهام جاليليو جاليلي بالهرطقة والكفر.
محاكمة جاليليو جاليلي :
أقيمت محاكمة صورية لـ جاليليو جاليلي ،في الوقاع هي ليست محاكمة لفرد بقدر ما كانت محاكمة للعلم، متأثرة بالمجريات السياسية في ذلك الزمان، وتهدف لإرضاء الجماعات الثائرة على أفكار جاليليو جاليلي ،والتي كانت تمثل الظهير الشعبي لنمط الحكم السائد آنذاك، وانتهت المحاكمة باتهام جاليليو بالاشتباه في الهرطقة، على الرغم من أن كان يعرف عنه تدينه وتمسكه بمسيحيته، وانتهى الأمر بحبسه في منزله تحت الإقامة الجبرية، وظل حبيساً إلى أن توفي في شهر يناير من عام 1642م.
مناقشة أفكار جاليليو جاليلي :
مات جاليليو جاليلي لكن الأفكار التي خلفها لم تمت، بل أنها فرضت نفسها رغم غياب قائلها، وذلك لصدقها وقربها من الصحة والمنطق، فعقدت حولها الكثير من الدراسات والنقاشات، وكل نقاش أو دراسة انتهى بالتوصل إلى دليل جديد على صحة نظريته، بعد أن خويت جعبة معارضيه من الحجج والبراهين، أمام الأدلة العلمية الدامغة المثبتة لصحة نظرية جاليليو جليلي ،ونتيجة لذلك اعترف العالم بفضله وعبقريته، وأقر الجميع بأنه كان سابقاً لزمنه بسنوات ضوئية.
رد اعتبار جاليليو :
“الأفكار لا تموت” هي حكمة عظيمة وصادقة، خلدها يوسف شاهين في أذهان الناس من خلال السينما، حين ضمنها إلى الحوار الختامي لفيلم المصير، ورغم أن العمل السينمائي هذا كان يتناول سيرة الفيلسوف العربي ابن رشد، إلا أننا نجد أن الجمل ذاتها يمكن أن تنطبق على جاليليو جاليلي ،فصراع العلماء مع جبروت الحكام هو صراع متجدد وأبدي، تكررت أحداثه في كل زمان وفي كل مكان على سطح الأرض، ودائماً النصر يكون من نصيب العلماء وإن كان بعد حين، وعند دراسة التاريخ فإننا ننظر إلى اسماء العلماء بينما نتجاهل ظالميهم، فابن رشد حالياً يعرف بأنه أحد أبرز الفلاسفة في التاريخ الإنساني، وكذلك جاليليو جاليلي رُد إليه اعتباره بعد زمن طويل، وتم تخليد اسمه ضمن اسماء العظماء، وقد اعترفت الكنيسة بعد كل تلك السموات بالخطأ الذي اقترفته، واعترفت بأن جاليليو كان على حق وصاحب النظرية الأصوب، بل أن الإدانة له بالفضل جاءت ضمن مجموعة من الاعترافات، نذكر منها:
1- جاليليو جاليلي والبابا بنديكت :
من أوائل من اعترفوا بفضل جاليليو جاليلي على العلم، كان البابا بنديكت الرابع عشر، الذي أعلن بالخطبة التي ألقاها في عام 1741م تقريباً، أن جاليلي كان محقاً وإن الكنيسة قد أخطأت بمحاكمته، وإن شخص في مثل عبقريته كان يجب أن يحظى بمكانة مرموقة، وأن يكون ضمن أعلياء القوم في زمنه لا ضمن السجناء، وبالخطبة ذاتها أمر بإعادة طباعة كافة الكتب المحتوية لأفكار جاليليو جاليلي
2- جاليليو جاليلي والبابا بيوس :
في عام 1822م كان الاعتراف الثاني بنظرية جاليليو جاليلي ،ولكن ذلك الاعتراف كان اعترافاً ضمنياً وليس صريحاً، فقد قام الباب بيوس السابع بطباعة كتاب النظام الشمسي، وهو الكتاب الذي نظمه العالم البولندي نيكولاس كوبرنيكوس، ورغم أن اسم جاليليو جاليلي لم يرد بتلك الخطبة، إلا أن مجرد الاعتراف بصحة نظريات كومبرنيكوس هو اعتراف ضمني بنظرية جاليلي، حيث أن النظريات التي وضعها كلاهما كانت شبه متطابقة، وكان جاليليو من أوائل المؤيدين لأفكار نيكولاس كوبرنيكوس، وكلاهما أيضاً من رواد عصر النهضة الأوروبي، وكتاباتهما ساهمت في انتقال أوروبا من العصور المظلمة إلى الإشراق الحضاري، وكان من أبرز علماء ذات العصر أيضاً، الألماني كبلر والدنماركي براهة والإنجليزي الأشهر إسحاق نيوتن.
3- البابا يوحنا بولس والاعتذار الصريح :
الاعترافات السابقة جميعها لم تتضمن اعتذاراً صريحاً، بل كان الاعتذار بها ضمنياً مختبئاً وراء الشكر والعرفان، ولكن في عهد البابا يوحنا بولس الثاني، وتحديداً في عام 1992م، قامت الهيئة العلمية برفع تقريرها حول جاليليو جاليلي إلى قداسته، وبعد اطلاعه على التقرير وما ورد به من معلومات، تثبت فضل جاليلي على العلم وما تعرض له من ظلم وقهر، خرج البابا يوحنا بولس بخطاب في شهر نوفمبر من العام نفسه، وقدم اعتذاراً رسمياً باسم الكنيسة إلى العالم الفلكي جاليليو جاليلي ،وأعلن براءته رسمياً من كافة التهم التي وجهت إليه في 1623م، ويرى المؤرخون أن خطاب البابا هذا بمثابة نقطة تحول، إذ أن بموجبه تم القضاء على سوء التفاهم بين الكنيسة والعلم.
4- البابا بندكتيوس وتمثال جاليليو جاليلي :
أن تتم إقامة تمثال لعالم قدير مثل جاليليو جاليلي ،هو من الأمور البديهية للدرجة التي لا تثير الانتباه، أما ما يدفعنا للتوقف عند ذلك الحدث، هو الموقع الذي اختير لوضع التمثال به، حيث أقيم تمثال جاليليو جاليلي داخل أسوار الفاتيكان، وكانت تلك هي الوسيلة الأخيرة للعرفان بجميله، ورد الاعتبار إليه وإسكات الألسنة المشككة في تبرأته، وهذه الفكرة تمت في عهد البابا بندكتيوس في عام 2008م، الذي كرر الإشادة بإسهامات العالم جاليليو جاليلي العلمية، وذلك خلال إحياء الذكرى الـ 400 لإختراع التليسكوب الأول للعالم.