انتشار الأمية في الدول العربية تحَوّل إلى ظاهرة مُدمرة، فهي بمثابة دوامة تبتلع كل محاولة للتطوير أو التقدم والازدهار، وقد أظهرت التقارير الصادرة عن العديد من الجهات المعنية وعلى رأسها منظمة الألسكو إن عدد الأميين في الوطن العربي قد وصل إلى 97.2 مليون نسمة تقريباً حسب إحصاء 2013، أي ما يعادل قرابة 30% تقريباً من إجمالي عدد السكان. مما يفرض علينا التوقف قليلاً أمام تلك الظاهرة والتساؤل عن سبب انتشار الأمية في الوطن العربي وسر تزايد معدلاتها سنوياً؟
أسباب انتشار الأمية في الدول العربية :
تناول الخبراء ظاهرة انتشار الأمية في الدول العربية بالدراسة والتحليل في محاولة للتعرف على أسبابها والعوامل التي أدت لتفاقمها إلى هذا الحد، وكان في مقدمتها ما يلي:
تردي الأوضاع الاقتصادية :
ربطت العديد من التقارير والدراسات المتعلقة بظاهرة انتشار الأمية في الدول العربية بين تفشي هذا الداء وبين الوضع الاقتصادي لهذه البلدان؛ حيث أظهرت الدراسات الإحصائية أن نسبة الأمية تزداد في مجموعة الدول العربية التي تعاني من أزمات اقتصادية مثل مجموعة الدول الواقعة ضمن قارة إفريقيا مثل مصر وليبيا، بينما انخفضت تلك النسبة في مجموعة الدول التي تتمتع باقتصاد قوي مثل مجموعة دول الخليج العربي المنتجة للبترول.
أما سر الارتباط بين قوة الاقتصاد أو بالأحرى مستوى الدخل وبين معدلات انتشار الأمية في الدول العربية فقد أرجعه المحللون لعِدة عوامل، على رأسها سوء المنظومة التعليمية وقلة عدد المدارس والمؤسسات التربوية، حتى أن الإحصائيات قد كشفت عن خلو بعض القرى والمدن من أية مدرسة.
إغفال أهمية التعليم في ذاته :
يمكن اعتبار إغفال أهمية التعليم أحد العوامل الرئيسية التي ساعدت على انتشار الأمية في الدول العربية خلال العقدين الأخيرين، حيث كشفت بعض الدراسات عن أن الدراسة لمجرد الدراسة ليست ضمن أولويات شريحة كبيرة من المواطنين العرب، بل أن بعضهم يرى أن دور التعليم يقتصر على تأمين المستقبل وضمان الحصول على وظيفة مناسبة أو عمل ثابت، ومن ثم إن كان بمقدور الإنسان الحصول على فرصة عمل دون إتمام تعليمه أو دون الالتحاق بالمدرسة من الأساس فإنه لا يجد غضاضة في الأمر!
يشار هنا إلى أن انتشار أسلوب التفكير هذا قد ساهم في نشر الجهل حتى بين المتعلمين أنفسهم؛ والمقصود بالجهل هنا تراجع المستوى الثقافي، وعدم الرغبة في تطوير الذات أو التثقيف أو تنمية الوعي بالأمور العامة الواقعة خارج إطار الوظيفة أو مجال العمل، وفي نظر العلماء والخبراء أن هذا نوع آخر من أنواع الأمية.
تهميش دور المرأة :
قد يتساءل البعض عن السر بين قضية المرأة وحقوقها وبين انتشار الأمية في الدول العربية ،لكن الحقيقة أن هناك صلة وطيدة بين الأمرين، حيث أن احتساب نسبة الأمية تقاس عن طريق إحصاء عدد المتعلمين من أبناء الشعب بالكامل بغض النظر عن النوع، وقد أوضحت الدراسات المجراة من قبل المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (الألسكو) أن نسبة الأمية بين نساء العرب ممن تتراوح أعمارهن ما بين 15: 45 عاماً تصل إلى 60% مع توقعات بارتفاع تلك النسبة خلال سنوات قليلة.
سر تفشي داء الأمية بين النساء بصفة خاصة يرجع إلى تهميش المجتمع لهم وعدم تمكينهم من أي وظائف حيوية أو مناصب عليا، واقتصار دورهم على الاهتمام بالشؤون الأسرية، ولأن -كما أشرنا سابقاً- الكثير من المجتمعات العربية تجهل قيمة التعليم في ذاته فأنها لا ترى منفعة من تعليم البنات وهو ما ساعد على انتشار الأمية بصورة أكبر، خاصة في المناطق البدوية والريفية.
تراجع مستويات الدخل :
لنكن صرحاء مع أنفسنا ونُقر بأن مجانية التعليم ما هي إلا شعار تلوح به الحكومات دون أن تطبقه بصورة فعلية على أرض الواقع، فالتعليم في المنطقة العربية مُكلفاً للغاية وفي ذات الوقت شهدت بعض الدول العربية خلال السنوات الماضية حالة من التضخم الاقتصادي الذي أدى إلى تراجع مستويات الدخل، وبالتالي أصبح تعليم الأبناء عبئاً إضافياً يقع على عاتق عائل الأسرة وفي أحيان كثيرة لا يقو عليه.
أشارت العديد من الدراسات إلى أن بعض الأسر لا تحرم أطفالها من التعليم فقط بسبب سوء الأوضاع المعيشية وضيق الحال، بل أنها تدفع بهم إلى سوق العمل في وقت مبكر جداً من عمرهم ليساهموا في إعالة الأسرة، وهذا بكل تأكيد لا يساهم في حل المشكلة بل أنه يؤدي إلى تعقيدها، مما يمكن معه القول بأن انتشار الفقر سبباً مباشراً في انتشار الأمية في الدول العربية
تردي أوضاع المنظومات التعليمية :
هل كل من يذهب إلى المدرسة يتعلم؟!.. “نعم” هي الإجابة البديهية والمنطقية لهذا السؤال لكنها ليست بالضرورة الإجابة الصحيحة، فليس كل من نال فرصة الانضمام إلى المدارس بالمنطقة العربية تعلم بحق، والسر في ذلك يرجع إلى تردي أوضاع المنظومة التعليمية في الوطن العربي وخاصة في مجموعة الدول الواقعة في الجناح الغربي.
تفتقر أغلب المؤسسات التعليمية والتربوية إلى وسائل التعليم الحديثة، حتى أن عدد كبير من تلك المؤسسات لا تستخدم الحواسيب ولا تعتمد على شبكة الإنترنت في عملها، رغم أنه أصبح وسيلة تعليمية رئيسية في العصر الحالي، الأمر نفسه ينطبق على الوسائط التعليمية المختلفة، هذا بخلاف الكثافة الطلابية المرتفعة داخل الفصول وكذلك انخفاض مستوى كفاءة المعلم الذي أفرزته في الأساس ذات المنظومة التعليمية مُتردية المستوى، وهذا كله بالطبع كان له انعكاسات سلبية عديدة على جودة التعليم وساهم بشكل أساسي في رفع نسب الأمية.
الحروب المختلفة :
أسباب الحروب متعددة وكذلك النتائج التي تترتب عليها، فأعداد القتلى وحجم الخراب الناتج عن القصف هو الأثر المباشر والواضح لتلك الحروب لكنه لا يُمثل كامل نتائجها، والتي من بينها الإسهام في انتشار الأمية نتيجة تشرد الأسر ونزوحها إلى مدن أو دول أخرى وبالتأكيد لن يكون التعليم ضمن أولويات أسر في هذا الوضع، هذا بالإضافة إلى تأثيرها السلبي على اقتصاد البلاد وتوجيه مصادرها للإنفاق على مجالات أخرى بخلاف التعليم وعلى رأسها الإنفاق العسكري والتسليح.
شهدت المنطقة العربية خلال السنوات الأخيرة العديد من الحروب المتنوعة، منها المتمثل في النزاعات على الحدود السياسية مع دول الجوار أو الحروب الأهلية داخل البلد الواحد، في كل الأحوال أثرت الحروب على الاستقرار في هذه الدول وأدت إلى خلخلة الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية وزادت حجم المعوقات التي تواجه العملية التعليمية المُتردية بالأصل.
سياسات الدول العربية وتوجهاتها :
في الختام لا يمكن إعفاء الحكومات المتعاقبة من مسؤولية انتشار الأمية في الدول العربية وذلك لسببين، الأول هو أن الارتقاء بمستوى المنظومة التعليمية ودعمها بالشكل اللائق لا يأتي في مرتبة متقدمة ضمن قائمة أولويات تلك الحكومات؛ حيث تخصص ميزانيات محدودة لقطاع التعليم ولا تعمل على دعمه وتطويره، أما السبب الثاني فهو عدم اتخاذ إجراءات حقيقية للتغلب على ظاهرة تفشي الأمية.
خاتمة :
انتشار الأمية في الدول العربية هو الخطر الحقيقي الذي تواجهه، حيث أن تفشي الجهل يعد السبب المباشر في عدم قدرتها على مواكبة دول العالم المتقدم، كما أن الأمية سبباً رئيسياً في مختلف المعوقات والعراقيل التي تواجه عمليات التنمية وهي أيضاً من مسببات انتشار بعض الظواهر المُدمرّة وفي مقدمتها الإرهاب. مما يعني أن أي محاولة للتنمية والمضي قدماً مرهوناً بالتمكن من مكافحة هذا الداء المُستشري والقضاء عليه.