الجميع بالتأكيد يعرف أنه خلال فترة حكم الرئيس جمال عبد الناصر كانت هناك وحدة بين البلدين الكبيرين مصر وسوريا، وفي هذه الفترة تم إرسال الجيش المصري الأول إلى سوريا، ومنذ ذلك الوقت وحتى الآن لم يعد ذلك الجيش إلى مصر مرة أخرى، وهو أمر مُحير بعض الشيء حيث أن الوحدة بين البلدين قد انتهت ولم يعد هناك ما يربطهما سوى الأخوة العربية العادية التي تجمع مصر بأي بلد عربي آخر، والحقيقة أن بعض الذين يُعملون عقولهم في الأمور بدأوا يتساءلون عن سر هذا اللغز، وكيف من الممكن أن يستمر جيش كامل في دولة لا تحتاج إليه ولا تمتلك أصلًا سببًا لوجوده، وهذا ما يأخذنا إلى كتابة السطور الآتية، حيث السؤال عن أسباب عدم عودة الجيش المصري الأول من سوريا على الرغم من مرور ما يزيد عن خمسة عقود، فهل أنتم مستعدون لتلقي إجابة ذلك السؤال المُحير؟ حسنًا لنبدأ في الإجابة مباشرةً.
بقاء مسمى الجيش المصري الأول فقط من أجل إبقاء الهدف
الهدف الرئيسي من إرسال الجيش المصري الأول إلى سوريا هو بلا أدنى شك تحقيق الوحدة العربية وحماية الأراضي السورية وضمان مكوثها في حالة من السلام والرخاء، هذا هو الهدف الأسمى الذي تسعى إليه مصر بصفتها الأم الكُبرى للوطن العربي، فهي أقدم بلاده وأكثرها عراقة، ولن نُبالغ أنها الأكثر تقدمًا من حيث البنية التحتية وكذلك فيما يتعلق بالتجهيز العسكري، وإلا ما كانت قد أرسلت جيشها الأول أصلًا إلى سوريا، فهي دولة قوية ولا أحد بالطبع يُمكنه إنكار ذلك، والجميع يعرف أن مصر لو كانت تمتلك جيوشًا بعدد الدول العربية لأرسلتهم جميعًا من أجل ضمان حماية وأمن هذه البلدان الشقيقة، هذا هو الهدف الأسمى الذي لا يختلف عليه أحد.
إن أعلنت مصر فعلًا أنها قد استردت جيشها الأول من سوريا فإن الأمر سوف يكون مؤلمًا بعض الشيء، وكأنها مثلًا تقطع الصلة أو الحبل الذي رُبط قبل سنوات، وهذا ما لا تُريد مصر حدوثه بلا أدنى ريب، ولهذا، وبصورة بديهية تمامًا، أبقت مصر على مُسمى جيشها فقط وجعلته كما هو سوريا، بينما حافظت في نفس الوقت على الهدف من وجود الجيش من البداية، عصفورين بحجرٍ واحد ضربتهما مصر إذًا.
تكفل الجيشين الثاني والثالث بالأمر
إذا أعملنا عقولنا قليلًا في هذا الأمر فسنجد أن مصر لا تحتاج أصلًا إلى وجود الجيش المصري الأول، فبكل بساطة ثمة جيشين آخرين داخل أرض النيل، هناك الجيش الثاني الميداني والجيش الثالث، وهما جيشان قويان يُحكمان سيطرتهما على البلاد ويحمينها من الأعداء في الداخل والخارج، ولهذا ليس هناك أي داعٍ لإثارة الفوضى باستدعاء الجيش المصري الموجود في سوريا بحجة أننا نحتاج إليه، ثم إننا أصلًا لن نحتاج إلى جيش بفكر قديم تم استهلاكه في سوريا منذ أكثر من خمسة عقود، ولماذا من الأساس نحتاج إلى كيان غير موجود بالمعنى الفعلي لكلمة الوجود، وسوف نفهم فيما بعد كيف أن الجيش المصري الأول ليس له وجود كما قد يتخيله البعض.
توزيع الجيشين المصريين الثاني والثالث تبدو كافية منذ الوهلة الأولى، فهناك جيش مهمته حماية الحدود، وهناك جيش آخر مهمته حماية المنشآت الهامة وحماية أهم بقعة حيوية في البلاد، وهي قناة السويس، وبهذا نجد أن الحاجة فعلًا لا تدعو إلى تواجد الجيش المصري الأول، ولهذا لم يعد من سوريا حتى الآن، لكن هل هذا هو السبب الوحيد!
لم يعد هناك جيش مصري في سوريا من الأساس
الأمر الذي ربما يغفل عنه البعض أننا عندما نتحدث عن الجيش المصري الأول فإننا بذلك نتحدث عن شيء ليس له وجود، أجل كما تسمعون تمامًا، ليس هناك أي جندي مصري في سوريا، وفي نفس الوقت لا يزال الجيش المصري الأول موجود في هذه البلد كما هو منذ أرسله عبد الناصر وقت الوحدة، وتفسير ذلك اللغز ببساطة أن الجيش المصري موجود هناك كمُسمى فقط، مُسمى الجيش المصري الأول، بينما الجنود والمُعدات الحربية التي كانت موجودة به قد عادت جميعها منذ وقت طويل، ولتقريب الصورة أكثر، لنفترض أنك الآن في سوريا وطلبت من أحد المارة إرشادك إلى معسكرات الجيش المصري الأول، هل تعرف ماذا ستكون ردة فعله وقته؟ سيسخر منك، لا لشيء سوى أن ما تطلبه ليس له وجود أصلًا.
عندما عاد الجيش المصري من سوريا إلى مصر لم يعد ككيان واحد بمرةٍ واحدة، بل عد على عدة دفعات وفي أوقاتٍ مُختلفة، حتى أن بعض العائدين كانوا يظنون طوال الوقت أن ثمة ما بقي منهم داخل أراضي الشام، لكن الحقيقة التي اكتشفوها بوقتٍ متأخر بعض الشيء أن الجميع قد عاد ولم يبقى جنود سوريا إلا من السوريين أنفسهم، يُمكنكم القول طبعًا أنها خُدعة، لكن الخدعة بالتأكيد كانت تحمل هدفًا ساميًا.
إرسال رسالة للعالم بأن مصر موجودة في أي وقت
كذلك من ضمن الأسباب التي جعلت الجيش المصري الأول لا يعود أدراجه حتى الآن أن مصر كانت تمتلك رسالة وتُريد إيصالها للجميع، تلك الرسالة تقول بكل وضوح وبساطة أن مصر موجودة في كل وقت وبكل مكان، ومستعدة طوال الوقت للذود عن أراضي العرب، فعندما يعرف الغرب مثلًا أن مصر قد أرسلت قديمًا جيشًا كاملًا إلى سوريا ولم تسترده حتى هذه اللحظة فسوف يُفكرون ألف مرة قبل القيام بأي فعل طائش تجاه أي جزء طاهر من الوطن العربي، سيُدركون أن ثمة بلدان من هذا الكيان الكبير مُستعدة لإرسال جيوشها من أجل الزود عن شقيقاتها، وهذا رسالة تهديد قوية جدًا بالطبع.
وجود الجيش المصري في سوريا يعني لأي عاقل أنه من الممكن جدًا أن يتواجد في صنعاء وقت الشدائد، يُمكن أن يتواجد كذلك في القدس عندما يُفكر الكيان الصهيوني في المساس به، يُمكن أن يتواجد في السعودية عندما يكون هناك خطر على الكعبة المشرفة، وهكذا في أي مكان ينتمي للعرب ويحوم فيه الخطر من قريب أو بعيد، هذه هي مصر، وهذا بالضبط هو المعنى الذي نقصده من الوحدة العربية التي ننادي بها باستمرار.
الحفاظ على ما أنجزه عبد الناصر
السبب الأخير الذي يجعل القيادات في البلدين غير مُرحبين بفكرة عودة الجيش المصري الأول من سوريا أن ذلك الأمر كان أصلًا من ضمن إنجازات الرئيس المصري الأسبق جمال عبد الناصر، ولذلك فإن من ضمن أساليب احترام قرارات هذا الرجل أن يتم الحفاظ على ما أنجزه، حتى ولو معنويًا بوجود المُسمى فقط داخل الأراضي السورية، والحقيقة أن قرر الإبقاء على المسمى من وجهة نظر الكثيرين أحد أبرز القرارات العربية الصائبة في الآونة الأخيرة، ولو كان ثمة أحد يستحق الثناء فهو بالتأكيد مُتمثل في شخص أي رافض لفكرة عودة الجيش المصري الأول من قيادات البلدين.