حدثت الثورة الفرنسية في العشرة سنوات الأخيرة من القرن الثامن عشر، وذلك نتيجة الفقر والقمع الذي كان متفشي في المجتمع الفرنسي، بجانب الضرائب الباهظة والغير عادلة التي كانت تفرضها الحكومة الفرنسية، وغيرها من الأسباب الأخرى، فلذا خرج الفرنسيون مطالبين بمنحهم هذه الحقوق المسلوبة منهم ومنحهم العدالة الاجتماعية، ولكن واجهتم الحكومة بكل قمع واضطهاد وقتل الكثيرين من الشعب، ولكن بعد استتباب الأمور وتمتلك الشعب لزمام الأمور خرجت فرنسا للعالم بصورة مفاجئة، واستطاعوا بقيادة نابليون بونابرت أخذ مركز سياسي وعسكري كبير مع الدول العظمى، وذلك بسبب الحروب التي خاضوها وتمكنوا من إحراز النصر فيها على إيطاليا والنمسا وألمانيا وبروسيا وروسيا وغيرها، ولذلك فالثورة الفرنسية ظهر تأثيرها في داخل الأراضي الفرنسية وخارجها، حتى عدت من أهم الأحداث التي وقعت في الساحة الأوروبية.
تعاطف الشعوب مع مبادئ الثورة الفرنسية
كانت مبادئ الثورة الفرنسية هي إصلاح الملكية والقضاء على الفساد المستشري بها، والقضاء على الفساد الذي كان يتواجد في الحكومات الإقليمية، وإلغاء نظام الامتيازات المجحف الذي يفرق بين طبقات الشعب في المناصب والضرائب، ولم يكن هذا النظام يفرق بين الطبقات فقط بل ويحمل عبء الضرائب التي تلغي من على عاتق النبلاء وتوضع على عاتق الفقراء والضعفاء، هذا بجانب الأموال الباهظة التي كانت تجنيها الكنيسة في فرنسا، بشتى الطرق من الضرائب والأراضي التي بلغت خمس مساحة فرنسا وغيرها، هذا بجانب تمجيد الإنسانية واعتبارها المرجع الأساسي لكل أنظمة المجتمع السياسة والدينة والاجتماعية، وتحقيق المساواة والحرية والإخاء الغير متواجد وقتها، كل هذه الأسباب وأكثر أثارت عاطفة الشعوب الأخرى وجعلتهم يؤيدون ويساندون هذه الثورة، بل وقد كان بعضهم يعيشون مثل هذه الأجواء تمامًا، حيث لم تكن الملكية المستبدة متواجدة في فرنسا فقط بل كانت في ألمانيا وبريطانيا وبروسيا ودول أخرى، فلذلك قامت ثورات تطهيرية أخرى في هذه الدول مما أدى إلى كثرة النزاعات والاضطرابات التي هزت أوروبا بأكملها، وكل هذا بفضل الثورة الفرنسية المجيدة.
انهيار الملكيات الاستبدادية في أوروبا
تعد الثورة الفرنسية هي المحرك الأم للشعوب الأوروبية التي كانت تعيش وسط نظام فاسد من الملك للحكومة، فلذلك وبعدما رأت هذه الدول ما يحدث في فرنسا خرجت بمظاهرات مساندة ومطالبة بمنحهم مثل الحقوق التي يطالب بها الشعب الفرنسي، وقد نجحت إحداها وفشلت الأخرى، ولكن مع تملك الشعب الفرنسي لزمام الأمور وعزل الملك والحكومة والوزارة الفاسدين، تحرك نابليون بونابرت لغزو هذه البلاد المجاورة وكان يدخلها معلنًا تأييده للحريات الدينية والاجتماعية وإصلاحه للمؤسسات الفاسدة وغيره، مما جعل هذه الشعوب تنظر إلى الفرنسيين نظرة المخلص والناصر لهم، وقد قامت بفتح قلوبها لهم وإطاعة أوامرهم حتى قضوا على الملكيات الاستبدادية الفاسدة، وفرضت السلطات الفرنسية دستورها العادل على البلاد المفتوحة والذي تقبله الناس بكل رضا، وكان من ضمن هذه الدول ألمانيا والنمسا وبروسيا وإسبانيا والبرتغال وإيطاليا، وهكذا خرجت الثورة الفرنسية من طور الأنانية والمحلية التي كانت تسلكه جميع الثورات إلى طور النزعة العالمية التي طالت أجزاء كبيرة من الأراضي الأوروبية.
تأثيرها القوي على جمهورية ألمانيا
كان من ضمن الدول التي طالتها أثار الثورة الفرنسية هي ألمانيا والتي كانت تسعى للاستقلال من الحكم الروماني والنمساوي، ولذلك رحبت بالجيوش الفرنسية التي ضمت أراضيها وولايتها التسعة وثلاثين في كتلة واحدة قوية، وعملت على إلغاء نظام الامتيازات الطبقية، وإزالة العوائق التجارية، وتحسين المواصلات، والقضاء على القيود الإقطاعية، كل هذا كان له أثره الكبير على الشعب الألماني وخاصة المفكرين الذين كانوا يحلمون بالحرية والمساواة والإخاء الذي حققه لهم نابليون بونابرت، وبذلك أصبح الشعب الألماني قوي وموحد وقام بإجلاء القوات الرومانية عن البلاج عام 1806، وإبعاد النمسا والسويد عن ولاية بوميرانيا الألمانية والتي كان لها دور هام على بحر البلطيق، وبهذا الاتحاد قضى الألمان على الحواجز والتقاليد التي كانت تفرق بين دويلات ألمانيا وكأنها عدة دول مختلفة، وهكذا كانت الثورة الفرنسية هي المحددة للتاريخ الألماني إلى يومنا هذا.
اختلاف الرقع الجغرافية الأوروبية بعد الثورة الفرنسية
اختلفت الكثير من الرقع الجغرافية لقارة أوروبا بعد الثورة الفرنسية، وذلك بسبب الحروب التي قام بها نابليون بونابرت تجاه بعض الدول المجاورة، فقد اتحدت الولايات الإيطالية وأصبحت كتلة واحدة كلها بعدما كانت عبارة عن مجموعة من الولايات التي تعتبر نفسها مستقلة بذاتها، ولكن ولاية الفاتيكان التي تقع في قلب روما الإيطالية لم تخضع لهذا التغيير وتقر به، فما زالت كما هي مستقلة بذاتها حتى أصبحت دولة وتعد أصغر دولة في العالم مساحة وسكانًا حيث لم يتجاوز تعداد سكانها الألف نسمة، وننتقل إلى صعيد أخر وهي ألمانيا فقد ظلت ألمانيا تعاني طويلًا من الدويلات القائمة بها حتى أتى نابليون وغير هذه السياسة وأصبحت ألمانيا كتلة واحدة متكاتفة الأيدي، هذه وبالإضافة إلى أنه تم فصل النرويج عن الدنمارك وأصبحت دولة مستقلة بذاتها، وتم توحيد سويسرا وضم ولاياتها الثلاثة وعشرين ضمن نطاق واحد وملك واحد يسير وفق الدستور الفرنسي الذي وضعه نابليون بعد الثورة الفرنسية لهم، وقد التزمت النمسا العنيدة برقعة جغرافية محددة لها بعدما كانت تتدخل في شئون ألمانيا وإيطاليا بكل قوة، وهكذا كانت الثورة الفرنسية سببًا في بعض التغيرات التي جرت على الساحة الأوروبية خلال الحقبة الحديثة المبكرة.
ظهور نظام اقتصادي جديد بعد الثورة الفرنسية
مع بداية الثورة الفرنسية ظهر الكثير من المفكرين الاقتصاديين أشهرهم كيسناي ودي جورناي فعملوا على تحرير الاقتصاد وإلغاء الجمارك الداخلية التي كانت تفرض بين ولايات كل دولة، وقد أقروا أيضًا بأن الزراعة والمناجم والصناعة هم الثورة الحقيقية للبلاد، هذا وقد ظهرت جماعة جديدة تحمل اسم الفيزوقراط وشعارهم “اتركه يعمل-اتركه يمر” وكانت تنادي هذه الجماعة بحرية التجارة وتخفيف الضرائب وتسعى لتوفير حياة كريمة للعمال لأنهم هم الطبقة المنتجة في البلاد، وقد أخذ تيرجو وزير المالية الفرنسي بهذه المبادئ الصحيحة حيث قام بإلغاء الجمارك الداخلية بجانب إلغاء النقابات الطائفية وذلك دعمًا لتحرير التجارة الصناعة، ونظرًا لصحة هذه المبادئ وقوتها خرجت من فرنسا ووصلت للكثير من الدول الأوروبية فقاموا بتطبيقها عمليًا، وهكذا تعد الثورة الفرنسية صاحبة الفضل في التغيير الفكري العالمي في تحرير الكثير من الدول الأوروبية من القبضة الاقتصادية القديمة والتي لم تدع أي شعب منهم يتقدم، بل وجعلت خيراتها وثرواتها تنهب من قبل الملكيات المستبدة ورجال الكنيسة الطغاة.
ختامًا
قد تناولنا في هذا المقال العديد من الأسباب التي جعلت من الثورة الفرنسية شعلة مضيئة قد غيرت كثيرًا من تاريخ القارة الأوروبية، وما يميز هذه الثورة أنها لم تكن محلية النزعة كعادة أغلب الثورات في هذه العصور، بل أنها كانت عالمية النزعة ونادت بالحرية والمساواة التي فقدتها العديد من الدول في هذا الوقت، وبعدما استتبت الأوضاع بها وتخلصت من القيود والنزاعات القديمة بدأت في تحرير أفكارها لتشمل الدول الأوروبية المجاورة.
الكاتب: أحمد علي