مسألة إدمان التعليقات تفاجئني دائما وتكشف لي كم هي منتشرة بشكل فائق التصور وعادة ما أجد أن هناك أشخاصا يحدثونني عن تفاصيل ذكرت في ردود على تعليق ويذكرونها بمنتهى الدقة رغم أنني أنا شخصيا الذي كنت طرفا في الحوار لا أذكرها بهذه الدقة وهذا الأمر تكرر عشرات المرات دون مبالغة مما لفت نظري لأزمة إدمان التعليقات وأن أي كلمة تكتبها حتى إن كنت تظن أنه لم ينتبه لها أحد فهي محط اهتمام وفرز وتدقيق بل وتفسير وتحليل طويل المدى، فما هو السر وراء إدمان التعليقات على مواقع التواصل حتى إن كانت غير مهمة أو عديمة الفائدة؟ هذا هو موضوع مقالنا في السطور التالية:
أكثر تلقائية وعفوية
عادة ما يقوم الشخص المقدم على كتابة منشور على استخدام أفضل صياغة وأكثر أسلوبا يبرز أهميته وقيمته ويحاول حتى افتعال حالة معينة من أجل توصيل هذه الحالة لأصدقائه أو متابعيه، ومع زيادة عدد هؤلاء الأصدقاء والمتابعين أو مع زيادة الأعداد الموجهة لها محتوى هذا المنشور يصبح الافتعال والتدقيق بجرعة أكبر، أما في التعليقات وبما إن الإنسان يتوجه بالحديث إلى فرد واحد فقط أو هكذا يظن فإنه يكون أكثر تلقائية وعفوية وقد يتحدث دون أدنى اهتمام سوى بالرد على هذا الشخص لذلك يكون أكثر تلقائية وعفوية ويتخفف كثيرا من التزمت الذي يحيط نفسه به والتكلف الذي يصمم على إدراجه في حديثه لإضفاء قيمة عليه وإظهاره بأفضل صورة مناسبة، لذلك إدمان التعليقات من باب السعي وراء التلقائية والعفوية والنفور التلقائي من التكلف والاصطناع.
تفسير المنشور أو زيادة شرح
الكثير من الناس يقومون بكتابة منشورات مبهمة أو تحتوي على أجزاء كثيرة غامضة وغير واضحة مما يؤدي إلى استغلاقه على المستخدمين وعدم فهمهم له، مثلا عندما يقوم شخص بكتابة عبارة مثل إنا لله وإنا إليه راجعون فهذا يعني إلى حد كبير أن لديه حالة وفاة ولكن كتابته لهذه الجملة وحدها دون غيرها يجعل الناس يتساءلون عن المتوفى من هو وما صلته بالناشر، لذلك نجد أنفسنا تلقائيا نلجأ إلى التعليقات من أجل تفسير الأمر ومعرفة أصل الحكاية أو عندما يقوم أحدهم بكتابة “الحمد لله قدر الله وما شاء فعل” هل نحن نفهم تماما ما الذي حدث؟ ربما حادث سير أو ربما ضياع شيء ما أو استقالة من وظيفة أو أي من هذه الأمور وفي الحقيقة نحن لا نعلم على وجه التحديد كيف يمكننا معرفة سبب هذه الكتابة بالتالي إدمان التعليقات على قراءة مواقع التواصل توضح لنا الدافع وراء كتابته.
استقصاء ردود الأفعال حول المنشور
حينما يقوم شخص بكتابة منشور ما يحمل رأي معين أو وجهة نظر تجاه معتقد معين أو تجاه حدث يشغل الرأي العام فإننا نسارع باستمرار إلى التعليقات لاستقصاء ردود الأفعال حوله وقد يستغرق هذا الكثير من الوقت حيث يكون هناك الكثير من الجدل والتعليقات والردود المتتابعة والسجال في المناقشات مما يجعل الأمر جذابا أكثر ومع سيولة هذه الأفكار تجد نفسك مضطربا ولا تدري إلى أي جانب تنحاز لأن كل منطق له وجاهته وكل رأي يمتلك جانبا من الصواب في سياقه وتجد نفسك في دور المتفرج أو ربما قد تكوّن رأيا انفعاليا بحتا بسبب أن هناك شخصا يمتلك من المغالطات المنطقية وأساليب النقاش الملتوية ما يجعله يبدو أكثر فهما وعلما ولكن على الجانب الآخر إن حللنا خطابه وفككنا حجته لوجدناها أكثر هشاشة وانعداما للوجاهة مما تبدو عليه بكثير بالتالي من أهم أسباب إدمان التعليقات هو استقصاء ردود الأفعال وقياس والوقوف على تفاعل الناس معه، حيث عادة ما تكون التعليقات أكثر إبهارا من المنشورات في كثير من الأحيان.
اكتشاف الروابط بين المعلقين
إذا كان المنشور الذي يكتبه شخص يتحدث مع نفسه ولنفسه فإن التعليقات يعني حديث بين اثنين، ومن خلال أسلوب الحوار واللغة المستخدمة تستطيع استشفاف الرابطة التي تجمع الشخصين، هل هو قريب أو فرد من العائلة لاسيما إن كان أكبر سنا فهذا يعني أن اللغة المستخدمة ستكون أكثر تحفظا واحتراما نوعا ما، وإن كان هذا الشخص حبيب سنجد كثيرا من تعبيرات القلوب والملصقات المعبرة عن الحب وإن كان صديقًا مقربا فنجد اللغة متباسطة جدا والكثير من الألفة بين المعلقين وذكر لزمات ومواقف حدثت بينهما لا أحد يعرفها غيرهم أما إن كان الأسلوب رسميا جافا خاليا من أي تعبير فهذا يعني أن العلاقة بين الشخصين سطحية أو حتى منعدمة أو ممكن أن يكون زميلا من الشغل أو معرفة من بعيد، وفي استكشاف الروابط بين المعلقين هذه خاصة إن كان أحد المعلقين يخصك أو يهمك أمره إحدى أهم أسباب إدمان التعليقات على مواقع التواصل الاجتماعي.
متعة التلصص
كما قلنا بالأعلى أن التعليقات عادة تكون أكثر تلقائية وعفوية وأقل تكلفا وافتعالا من المنشورات ذاتها لذلك يحسب الإنسان نفسه في التعليقات لا أحد يهتم به أو يقرأ ما يقوله في التعليقات سوى الشخص المعني بالتعليق وبالتالي يكون هناك لذة في التلصص على حوارات الناس مع بعضها خاصة إن كانت حميمية أو مألوفة كما لو كنت تتجسس على اثنين يتحدثان إلى بعضهما على الطاولة المجاورة لك في المطعم أو في المقعد المقابل لك في الحافلة العمومية، الأمر له متعته ولذته الخاصة ولا أحد يستطيع إنكاره لذلك دافع من أهم دوافع إدمان التعليقات وقراءتها بحرص شديد على مواقع التواصل الاجتماعي هو شهوة التلصص التي قد تدفع الإنسان لتمضية جزء كبير من وقته لقراءة التعليقات وفرزها بالتفصيل.
إدمان التعليقات يشبه حوار مسرحي
إن كنت من القراء الدائمين لكافة صنوف الأدب وخاصة الأدب المسرحي فإنك ستحب أن تقوم بقراءة التعليقات بين الأشخاص على مواقع التواصل الاجتماعي لأنها تشبهها إلى حد كبير، ففي المسرحيات الأدبية عكس الروايات التي تجد فيها أن الكاتب يسهب في وصف التفاصيل والمشاعر الباطنية والغوص في نفسيات أبطاله ووصف الجو المحيط دون اهتمام بالحوار إلى حد كبير فربما بين جملتي حوار بين طرفين في نفس الدقيقة تتداعى الأفكار وتتدافع العواطف وتتدفق الأحاسيس في وجدان الطرفين أو أحدهما وتستدعي الذكريات مما يستلزم ذلك لكتابته صفحتين أو ثلاث حتى نصل للجملة الحوارية التي تليها بينما في المسرح يعني الكاتب فقط بالحوار مع إعطاء فكرة حول المكان الذي يتحدثان فيه وتكون الكتابة عبارة عن جمل حوار متتالية مع إعطاء نبذة بسيطة عند اللزوم عند نبرة الأشخاص حين الحديث وهو ما يشبه بالضبط التعليقات على فيسبوك أو غيرها من مواقع التواصل والتي عبارة عن جمل حوارية بين الأشخاص مع إدراج الأيقونات التعبيرية للإشارة للعاطفة التي يقال بها الكلام تماما مثلما في الكتابة المسرحية، لذلك إن كنت من محبي المسرحيات الأدبية فأنت بالطبع لديك إدمان التعليقات وقراءتها على مواقع التواصل الاجتماعي باستمرار للتشابه الفظيع بينهما.
التعليقات أكثر اقتضابا أحيانا
هناك الكثير من الأشخاص لا يهتمون كثيرا بالمحتوى التفصيلي للمنشور، خصوصًا إن كان كاتب المنشور ممن يميلون للحديث بإسهاب شديد وممل أحيانا حول فكرتهم واستعراضها من جميع جوانبها والاسترسال في شرحها وتحليلها وبالتالي يجب عليك قراءة المنشور جيدا كلمة بكلمة وسطر وراء سطر من أجل الإلمام بالمحتوى النهائي ورغم أن هذه الطريقة جيدة نوعا ما لأنها تفتح آفاق الذهن وتعرض لك استرسال الأفكار وتدافعها في ذهن هذا الشخص والمعطيات إلى أنك أحيانا تحب أن تعرف هل هذا المنشور مع أو ضد حيث يهمك أن تقيس التأييد أو الرفض لا مسوغات التأييد أو الرفض لذلك تلجأ للتعليقات والتي تظهر هل هذا الشخص مع أم ضد، ولذلك التعليقات التي تكون أكثر اقتضابا واختصارا في بعض الأحيان تدفعك إلى إدمان التعليقات دون حتى اهتمام بالمنشورات.
مهم عند إعجابنا بشخص
إدمان التعليقات ليس في جميع الأحيان، بل يمكن أن يكون في حالة إعجابنا بشخص ما، ونريد أن نعرف هل هذا الشخص مرتبطا مثلا أم لا واستشفاف ذلك من خلال تعليقاته على مواقع التواصل، هل يعلق عند شخص ما بغزارة؟ هل يتغزل في صور شخص ما بغزارة؟ هل يستقبل الإطراءات من هذا الشخص على الجانب الآخر بحفاوة ويتجاوب معها أم يرد عليها برسمية كأنها مجاملة عابرة؟ هل يطعم حديثه باستمرار بالقلوب والتعبيرات الدالة على العاطفة الجياشة؟ أيضا نود أن نعرف تفضيلاته الشخصية وطريقة حديثه مع الناس، هل هو مجامل أم جاف في التعامل؟ اجتماعي أم يميل إلى العزلة؟ كل هذه الأمور لابد من معرفتها بالطبع ولا يمكن الإلمام بها سوى من متابعة التعليقات أولا بأول عنده.
الملصقات المستخدمة والضحك الإضافي
التعليقات عادة ما تكون مصحوبة بالملصقات المستخدمة الجذابة والمبهرة والتي تخلب اللب وتجعل الإنسان توّاقا لمتابعتها والتي إن استخدمت في سياقها الصحيح تكون ملهمة ومعبرة جدا خصوصًا أن هناك ملصق تقريبا لكل موقف يمر بنا في حياتنا، بالتالي إن أتت الملصقات والتي أحيانا تكون معبرة أكثر من الكلمات في سياقها الصحيح تجعلها جذابة جدا وتجعل هناك ضحك إضافي وإبهار في متابعة التعليقات لذلك نريد أن نقول أن الملصقات المستخدمة في التعليقات تضفي عليها ميزة إضافية وتدفعنا إلى إدمان التعليقات والحرص على قراءتها بالتفصيل ومتابعة الحوارات بين الناس.
ملء الفراغ
ربما الفراغ هو المحرك الرئيسي نحو إدمان التعليقات ولذلك من باب ملء الفراغ نحن نلجأ لقراءة المنشورات والتحديثات المستمرة للأشخاص ثم قراءة التعليقات ومتابعة الردود واكتشاف الروابط بين الناس ومتابعتها، متابعة قصة حب تنمو ثم تتطور وتصبح علاقة رسمية، أنا شخصيا تابعت شيئا من هذا القبيل من أول لحظة حيث رأيت منشورا على حائط أحد الأشخاص من أنثى تقول له أنها رأته في مكان ما وكانت ترغب في مصافحته ولكنها خجلت لأنه ليس بينهما سابق معرفة، ومن هذه اللحظة تنبأت أن هذين الشخصين سيقعان في الغرام إن آجلا أو عاجلا، والآن هما متزوجان ولديهما طفلة، في هذه الأثناء كان لدي فراغا عظيما ولم أكن أفعل شيئا سوى الاهتمام بمثل هذه الأمور لذلك إدمان التعليقات نابع من الفراغ.
خاتمة
هناك عدة أسباب تجعل إدمان التعليقات عند البعض سببا رئيسيا ولكن على أي حال علينا أن نقول أن الفراغ هو المحرك الرئيسي وغير ذلك مثل الوحدة التي تجعلنا نسعى لرؤية الروابط والعلاقات بين الناس وتمني مثلها، أو الإعجاب بشخص ما بالتالي الهوس به والهوس بالأشخاص الذين يعلقون عنده وطريقة ردوده على الآخرين وتعامله معهم والميل إلى الاختصار من جهة أو الاستزادة من جهة أخرى وكلها أسباب وجيهة رغم أن إدمان قراءة التعليقات في ذاته ليس بالشيء المفيد في معظم الأحيان.