إجازة القرآن الكريم حلم يسعى إليه جل المسلمين المتعلمين، الذين يرون في القرآن بُغية لا يمكن الانحياز عنها لغيرها، وهدفا صعب التحقيق لكنه يرفع صاحبه من مصاف العامة المُتعتعين، وهم الذين يقرأون القرآن وهو عليهم شاق، إلى مصاف المُقرئين المجيدين، الذين لا يُفلُّ لهم لسان ولا يضعُف لهم جنان، ولا يتلعثمون فيه تلعثم المكروب إذا دهمه كرب لا نجاة منه كالمُغشى عليه من الموت، وتتعدد الأسباب الداعية لنيل درجة الإجازة القرآنية، إذ يتعلق بعضها بالدنيا ومكانة المُجاز بين الناس وما يمكن له أن يحصله من أموال في حياته، وبعضها الآخر متعلق بالآخرة وما يجنيه من المرء من مآثر ومكرمات في حياته وبعد موته، وما يحققه في الجنة من درجات عُليا، وهذه بعض هذه الأسباب
البحث عن وصل السند برسول الله
اتصال السند برسول الله- صلى الله عليه وسلم- شرف لكل مسلم على وجه البسيطة، ومفخرة لكل طالب تدين على ظهرها؛ لأن اتصال السند يغري بالارتباط الوثيق بين مُبلِّغ الوحي وبين مُبلَّغه، ويبث في روع من يحصل على إجازة القرآن الكريم أنه إن لم يدرك عصر رسول الله- صلوات الله عليه- بالصحبة، فإنه يدرك صلته به باتصال سند الوحي منه إليه عبر سلسلة لا تنقطع من القراء الذي تلقوا الوحي مباشرة من فم الشيخ عن الشيخ عن الشيخ وصولًا للبشير النذير، الذي تلقاه غضا طريا عن أمين الوحي جبريل- عليه السلام- الذي أُنزل به منجما طيلة ثلاثة وعشرين عاما في مكة والمدينة وما بينهما.
إتقان قراءة القرآن كما أُنزل
يسعى الراغبون في الحصول على إجازة القرآن الكريم إلى التخلص من اللحون والأخطاء الشائعة على ألسن العامة والخاصة من المسلمين، ولا يكتفي الساعون لنيلها بالابتعاد عن اللحون الجلية، بل يجاهدون أنفسهم للتخلص من الخفية منها، بل يزيدون عن ذلك أنهم يتحرون قراءة القرآن كما أُنزل بوصله ووقفه وحقه ومستحقه، كأنهم يتمثلون أنفسهم يتلون الآيات والذي يصوب خطأهم ملك الوحي أو المُكلَّف بتبليغه؛ فيلتزمون صوابه، ويتحرون ثوابه، ويتجنبون الخطأ فيه خشيةَ العقاب؛ تورعا أن يشتركوا مع العامة في الأخطاء الناتجة عن البُعد عن اللغة الفصيحة في أقدس النصوص التي تنظم حياتهم وآخرتهم، وتضبط سلوكهم ومعاملتهم وصلتهم بخالقهم، خاصة في عباداتهم وعقودهم.
ارتقاء الدرجات العليا من الجنة
وقراءة القرآن هدف في حد ذاته، يسعى له وفيه كل مسلم؛ ابتغاء رضوان الله، وزيادة في الأجر والمثوبة، والقراءة الصحيحة لها هدف ومقصد أيضا في الجنة، فقارئه في الدنيا يقرأ ويرتقي ويرتل في الجنة كما كان يرتل ويقرأ في الدنيا، والذي يتلوه وهو ماهر به ليس كمن كان يتلوه ويتعتع فيه، فمكانتهما في الدنيا والآخرة- وإن كانا في مأمنٍ من غضب الله- متفاوتة تفاوت إجادتهما القراءة، والحاصل على إجازة القرآن الكريم في سنام القراءة الصحيحة، والماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة، والمتعتع فيه وهو عليه شاق فله أجران، وليس من له أجران كمن سبق وصاحب السفرة الكرام البررة.
الاتصاف بـ” صحبة القرآن”
وصاحب القرآن، كما جاءت في الحديث الذي أكد أنه يُقال له اقرأ وارتق ورتل… الحديث، مصطلح يدل على المعايشة في الحل والترحال، والاستمتاع به في كل حالاته، فإذا أضحك القرآن ضحك صاحبه، وإذا أبكاه بكى، وإذا أمره فعل، وإذا حذره انتهى، لا يأخذ القرآن إلا عليه، ولا يصبّ الآيات على غيره، بل يحملها على نفسه، يقف عند حدودها ويسبح في ملكوتها، كأنما سُحر بجنية لا يستطيع أن يصرف بصره عنها، كبئر ماء في أرض لا تعيش بدونه إلا جدباء مُصفرَّة، وتعيش به يانعة الأزهار، مخضرة الساق، نضرة الجذور، ولهذا يسعى المسلمون للحصول على إجازة القرآن الكريم ليكونوا في أعلى مراتب الصحبة، يعرفون معانيه كما عرفها الصحابة، ويدركون مراميه كما أدركها التابعون.
التيقن من الانتماء لآل النبي
وصاحب القرآن يقرأ الحديث المؤكد أن ليس منا من لم يتغن بالقرآن، فيتغنى به، والتغني هو الترنم في شجن وحزن؛ إذ إن القرآن نزل بحزن، وأُمرنا أن نقرأه بحزن كما أنزل، والتغني ليس مجرد صوت شجي يخرج من الحنجرة دون إحداث تأثير نفسي وسلوكي على صاحبه، بل إن التغني ضمان للقارئ أنه ينتمي لأمة الإسلام؛ لأنه يتصف بخصيصة من خصائص هذه الأمة، التي ختمت الأمم، وامتلكت أسباب الخيرية، وارتبطت بالسماء ارتباط من لا يحيا إذا ترك طوق نجاته، والحاصلون على إجازة القرآن الكريم دون غيرهم يرتبطون بأسباب الخيرية ويتمسكون أشد التمسك بحبل الاتصال بين الأرض والسماء، فيصيرون بحق أصحاب القرآن، يعيشون به، ويحملونه على عاتقهم وفي قلوبهم، ويصبغون حياتهم به، فتصير بيضاء نقية، ظاهرهم أنقى من باطنهم، وباطنهم أصفى من اللبن الذي لا تخالطه الشوائب، ولا تدنسه أدران الأجساد.
رفع المكانة بين الناس
قارئ القرآن وحافظه له مكانة خاصة في المجتمع؛ ذلك أن الناس يُعظمون مَن يحمل كلام الله في صدره، ويتلوه آناء الليل وأطراف النهار، حتى ولو كان في مجتمع غير ملتزم دينيا، لذلك يسعى المسلمون للحصول على إجازة القرآن الكريم؛ لأنها تصبغ صاحبها بصبغة العلو، وتلبسه تاج الفخار في الدنيا كما تلبسه إياه في الجنة، والمكانة العُليا بين الناس- وإن كانت ليست غاية منفصلة، ولا هدفا رئيسا من الحصول على إجازات القرآن- فإنها من باب تحصيل الحاصل، فهي متحققة لا محالة في نهاية المطاف؛ إذ إن المجتمعات الشرقية أشد تعظيما لقارئ القرآن المُجاز من تعظيمهم مَن سواه.
إجازة القرآن الكريم تفتح أبواب العمل
يسعى شطر كبير من الراغبين في الحصول على الإجازات القرآنية لنيل وظائف عُليا، ذات رواتب كبيرة، بعضها يكون بالعملات المحلية، وأكثرها يكون بالعملات “الصعبة” كالدولار واليورو، لا يحققون مثلها أو شطرها في أي وظيفة أخرى، وتتمثل أبرز الوظائف التي تؤهلها الإجازات في تدريس القرآن للناطقين بالعربية وغير الناطقين بها مقابل رواتب مجزية، يكون الراتب فيها بعدد “حصص التدريس” شهريا، لكل حصة قيمة تقابلها، أما ثاني الوظائف التي يسعى لها راغبو الإجازات فهي تدريس القرآن لأبناء البلد نفسه عن طريق الكتاتيب ومراكز التحفيظ المنتشرة في أرجاء الدول الإسلامية، بداية من القرى وانتهاء بالعواصم والمدن، وتعتمد دخول الكتاتيب على أجر رمزي من كل طالب في هذه المراكز، ومع كثرة عدد الطلاب يزداد الدخل.
كيف تحصل على إجازة القرآن الكريم
وللحصول على الإجازة القرآنية عليك اتباع خطوات منهجية متتابعة تبدأ من إجادة القراءة القرآنية بإحدى رواياته، ثم ادرس إحدى متون التجويد، ولعل أشهرها هو منظومة ابن الجزري، ثم اقرأ القرآن على أحد الشيوخ المجازين غيبًا أو من المصحف، وبهذه الطريقة تحصل على إجازة القرآن الكريم بإحدى الروايات مثل ورش أو حفص أو قالون، وإذا أردت الاستكمال فادرس متن الشاطبية للقراءات السبع، أو طيبة النشر للقراءات العشر الكبرى، ثم ادرس المتن جيدا وافهم مراميه، واقرأ المصحف غيبا على شيخ مُجاز مع العناية بالأوجه المختلفة وتحريراتها، وربط الاختلافات بالشواهد من المتن المعتمد.
الكاتب: محمد الجداوي