مما لا شك فيه أن أعمار البشر وزيادتها أو نقصانها أمر بيد الله تمامًا، فلا أحد يعرف إلى أي وقت سيعيش وفي أي لحظة سيتمكن منه الموت، لكننا هنا لا نتحدث عن توقعات وتكهنات بقدر ما نتحدث عن إحصائيات ودراسات ومقارنات أُجريت من قبل ومن المتوقع أن تُشير بالتقريب إلى الخط البياني الذي تسير عليه أعمار البشر، فقبل مئة قرن مثلًا، أو عندما نزل البشر على هذه الأرض لأول مرة، كانت الأعمار كبيرة بشكل مُبالغ فيه، والمثال على ذلك أعمار سيدنا نوح وقومه، فقد ذكر القرآن أنه قد ظل يدعو قومه حوالي ألف سنة إلا خمسين عام، فما بالكم بالعمر الذي عاشه في المُجمل؟ بالتأكيد كانت الأعمار مرتفعة جدًا، ثم بدأت تقل شيئًا فشيئًا حتى أصبحت حوالي ستين عام كما أشار نبي الإسلام محمد عليه الصلاة والسلام، والآن نحن نتحدث عن عمر يزيد ست سنوات تقريبًا كل قرن، فلماذا يزيد المُعدل يا تُرى؟ هذا هو السؤال الذي سنحاول الإجابة عليه سويًا في السطور المُقبلة.
اختفاء بعض الأمراض والأوبئة القاتلة
على مدار القرون الخمس الماضية كانت أعمار البشر تنتهي سريعًا، حيث كان من الممكن جدًا أن يموت الرجل بمجرد تجاوزه لسن الأربعين، وهذا ليس لشيء سوى أن ذلك السن كان فعلًا هو المعدل الطبيعي للأعمار، حيث أن البشر ظنوا أن ذلك المعدل طويل بعض الشيء مقارنةً بالأطفال الذين يموتون لحظة ولادتهم، ثم مع مرور قرن واثنين بدأنا نصل إلى سن الخامسة والخمسين، وفي القرنين الماضيين كان بإمكاننا رؤية الناس وهم يتجاوزون سن الستين، والآن، ونحن في القرن الحادي والعشرين، هناك من يصلون بكل سهولة إلى سن السبعين بل والثمانين، ونحن هنا لا نتحدث عن النوادر، وإنما أعمار شبه منتشرة في العالم بأكمله، والآن، وأنت مُغمض العينين، يُمكنك الربط بين طول العمر واختفاء الأوبئة.
لمن لا يعرف، قبل خمسة قرون كان الناس يموتون بعد دور برد واحد، كان السعال قاتلًا، وكانت الإنفلونزا قاتلة، وكان كل شيء، يُمكنكم تخيله على اعتباره مرض بسيط لا قيمة له، قاتلًا، هكذا بدون أي مقدمات كان الناس يموتون، ثم يُكتشف بعد تكرر حالات الوفاة التي تتم بنفس الشكل أن السبب خلف موتهم هو وجود بعض الأوبئة، لكن الآن، ونحن نتحدث عن زيادة أعمار البشر، يُمكننا الملاحظة بشدة أن معظم هذه الأوبئة والأمراض قد اختفت تمامًا، وهنا يكمن السر.
انتهاء الحروب العالمية الكبرى
أعلى معدل للدموية في تاريخ البشر كان في القرون الخمس الأخيرة، فقد شهدت تلك الحقبة الملتهبة الكثير من الحروب العالمية الكبرى، وآخرها الحربين العالميتين اللتان وقعتا في القرن العشرين، وقد أدت هذه الحروب إلى قتل ما يزيد عن ثلث البشر تقريبًا، وطبعًا كان أغلب هذا المُعدل من الشباب الذي شارك في هذه الحروب كجنود مغلوب على أمرهم، شباب ربما لم يتجاوزا سن الثلاثين من عمرهم، وهذا يعني ببساطة أن معدلات أعمار البشر كانت في انخفاض شديد، هذا إذا وضعنا في الاعتبار كذلك أن المدن والمناطق البشرية التي كان يتم قصفها من قِبل الجنود المُعادين كانت تحتوي على أعداد لا بأس بها من الأبرياء، إجمالًا، كانت أغلب الطُرق تقود في النهاية إلى الموت السريع.
وجود الحروب كانت كذلك سببًا في التدمير على المستوى النفسي، حيث كان البشر يشعرون أن العالم الذي يعيشون به آخذ في التدمير، وأنه لن يمضي وقت طويل حتى يفنوا جميعًا، خاصةً وأن تلك الحروب كانت تطال العالم كله وليس فقط الدول المشتركة في الحروب، وطبعًا الحالة النفسية تمتلك التأثير الكبير، فالحزن العادي يُمكن أن يقتلك ويأكل من عمرك، فما بالكم بذلك الحزن الذي يتواجد خوفًا من فناء العالم!
الطفرة الطبية الكبيرة التي حلّت بالعالم
أيضًا من ضمن الأسباب التي لا يُمكن لأي عين إغفالها باعتبارها سببًا في زيادة معدل أعمار البشر أن العالم قد تعرض مؤخرًا لطفرة طبية عظيمة، ومؤخرًا هنا تعني القرون الثلاث الأخيرة، ففي هذه الفترة ظهرت الأدوية الجديدة وأصبح الأطباء متواجدين في كل مكان تقريبًا بعد أن كانوا عملة شبه نادرة، فهناك إحصائية تقول أن كل مئة شخص في العالم يمتلكون طبيبهم الخاص، وهذا ما يختلف عن القرن الماضي الذي كان كل عشرة آلاف شخص فيه يمتلكون طبيب واحد، هو تقدم هائل بكل تأكيد يستحق وصفه كطفرة، لكن هل الطفرة فقط في أعداد الأطباء؟ الإجابة بالتأكيد لا، فالعقول الطبية نفسها قد تطورت، كما أن الآلات أيضًا أصبحت قادرة على مجاراة أعتى الأمراض، بعد إرادة الله بالطبع.
قديمًا، ونحن نقصد بوصف قديمًا هنا قبل قرن مضى، كانت معظم الأمراض عندما تضرب الجسم تكتب له شهادة وفاة وقتية، بمعنى أنه يُصبح مرضًا بلا علاج لعدم وجود الأجهزة والمواد الطبية التي تُمكن من حل مُعضلة المريض، صحيح أن بعض الأمراض كان يوجد حل نظري لها، لكنه كان حل نظري غير قابل للتطبيق بسبب ندرة الموارد وعدم وجود النهضة الصناعية الموجودة الآن، لكن كل هذه قد تغير في الآونة الأخيرة بفضل الله وأيضًا رغبة الإنسان في التعلم.
الحد من التلوث بدرجة كبيرة جدًا أدى لزيادة أعمار البشر
عندما نتحدث عن التلوث فنحن لا نعني بذلك التلوث الذي تُنتجه المصانع فقط، فهناك أيضًا التلوث الناجم عن النفايات المُنتجة من البيوت والتلوث الذي قد يضرب الأرض بصورة طبيعية دون تدخل الإنسان، فكل هذه الأسباب السابقة تؤدي بالطبع إلى النيل من عمر الإنسان ونقصانه، وخاصةً قديمًا عندما كان البشر لا يمتلكون أي سُبل لمواجهة هذا التلوث أو الحد منه، ولذلك، عندما أصبح البشر قادرين على فعل ذلك الأمر أصبحوا كذلك، بعد إرادة الله، مُحافظين على مُعدل أطول من العمر، مُعدل ربما يسمح لهم بالزيادة لست سنوات في كل قرن كما تقول الدراسات، بمعنى أدق، بعدما كان العمر الطبيعي في القرن العشرين خمسة وخمسين عامًا أصبح الآن ستين عامًا ويزيد.
مواجهة التلوث باتت تحصل الآن من خلال إيجاد طُرق من أجل التخلص من القمامة والنفايات عامةً دون إحداث أي مشكلة للبيئة، وغالبًا ما يكون الحل السحري كامنًا في عملية الترميد التي يتم تعميمها الآن، وأيضًا التلوث اختفى من توقف الإنسان على الممارسات الضارة التي كانت تعمل على زيادة نسبة التلوث في الأصل، فقد أصبح الإنسان الآن أكثر تحضرًا وفهمًا، عمومًا، الحد من التلوث سبب قوي من أسباب زيادة أعمار البشر كل فترة.
قلة الزواج من الأقارب الذي ينقل الأوبئة
ربما تندهشون من ذلك، لكن البعض يعتبر أن الإقلال من ظاهرة الزواج من الأقارب ساهم بشكل إيجابي في زيادة أعمار البشر، حيث أن الناس عندما يتزوجون من أقاربهم فإنهم بالتبعية يسمحون للأمراض الوراثية بالتناقل فيما بينهم، وهو ما يؤدي أيضًا إلى موتهم غالبًا في نفس الظروف التي مات فيها أقاربهم، فإذا افترضنا مثلًا أن ثمة فتى قد تزوج من ابنة عمه فإن الأمر المنطقي في هذه الحالة أن الطفل الذي سينجبون سوف يكون حاملًا لأمراض العائلة، والتي من المنطقي أن تؤدي إلى موته في نفس العمر الذي مات فيه قريبه، ولهذا نعود ونؤكد أن الزواج من الأقارب قديمًا كان يؤسس لهذا المبدأ، وأن قلة هذه الظاهرة وندرتها حاليًا أدى بالضرورة إلى قلة الأوبئة وبالتالي الزيادة في العمر بعد إرادة الله بالتأكيد.
هناك من يعتقد أن مسألة الجواز من الأقارب هذه مسألة خاصة بالوطن العربي فقط، وهي بالتأكيد ظنون غير صحيحة، فالزواج من الأقارب قديمًا كان مُنتشر في العالم بأكمله، بل إن بعض الأوروبيين في العصور الوسطى كانوا يتزوجون من أقرب أقاربهم، شقيقاتهم مثلًا، وقد كان هذا الأمر يُسبب الكثير من المشاكل الأخلاقية في المقام الأول، ثم الطبية في المقام الثاني، تلك المشاكل التي كانت تصل إلى نقل أمراض تُسهم في قلة مُعدلات أعمار البشر، ولكل هذا نقول أن ذلك السبب يتم اعتباره بشدة أحد أهم الأسباب التي أدت إلى زيادة أعمار البشر حاليًا وتجاوزها معدل السبعين.
الطفرة الصناعية الكُبرى في العالم
قلنا قبل قليل أن الطفرة الطبية كانت سببًا هامًا من الأسباب التي أدت إلى زيادة أعمار البشر من قرنٍ إلى آخر، لكن ثمة طفرة أخرى كان لها نفس التأثير على العالم، وهي الطفرة الصناعية، فقبل ظهور الصناعة، وتحديدًا في القرن السابع عشر، كان معدل أعمار البشر يتراوح بين الأربعين والخمسين، أما الآن فهو يتراوح بكل سهولة بين الستين والسبعين، وهذا إن دل فيدل على أن شيء ما قد اختلف فعلًا، والشيء الذي اختلف هو ظهور الطفرة الصناعية في ثوبها الجديد، وحلول الآلات مكان الإنسان وقيامها بأبرز المهام التي كان يقوم بها، وطبعًا البعض منكم سوف تنفرج أساريره في اندهاش حول ذلك الأمر ويسأل عن العلاقة بين حلول الآلة بدلًا من الإنسان وطول عمره!
حلول الآلة مكان الإنسان أعطاه أخيرًا الأمر الذي كان يبحث عنه منذ وقت طويل، الراحة، أجل فقد أقضى الإنسان حياته في كدٍ وتعب وهو يفعل كل شيء لنفسه بنفسه، وكانت فترة العشرينيات والثلاثينيات والأربعينيات في عمر كل إنسان هي الفترة التي يتم فيها استهلاكه بكل ما تعنيه الكلمة من معانٍ، ذلك الاستهلاك كان يؤدي إلى انهاكه مع تجاوز الأربعين وبداية تساقطه شيئًا فشيئًا حتى يحدث الموت في ذلك الأمر، هكذا كان يحدث الأمر ببساطة شديدة، والآن بعد أن تم حل هذه المشكلة وأخذت الآلة زمام الأمور أصبحت بكل تأكيد سببًا في زيادة معدل الأعمار، بالطبع بعد إرادة الله وقدره.
إرادة الله وحكمته التي لا يعرفه غيره
السبب الأخير الذي ما كان من الممكن أبدًا تغافله أثناء حديثنا عن هذا الموضوع الهام هو رجوع مسألة زيادة أعمار البشر هذه إلى إرادة الله وحكمته، والتي تجعل من الوارد جدًا زيادة الأعمار لمئة عام وليس فقط عشر سنوات كل قرن، ولكي يكون لديكم علم، كانت الأعمار في العصور السحيقة أقوى وأطول بكثير من الآن، ونحن لن نذهب بعيدًا، فلديكم مثلًا سيدنا نحو الذي ظل يدعو قومه لأكثر من ألف عام، ناهيكم عن بقية عمره، أي أن الأمر في النهاية مرده إلى الله، هو الذي بيده تحديد أعمارنا وطولها وقصرها، هو الذي بيده كل شيء.