أبو بكر الرازي هو اسم آخر من الاسماء التي تستوقفنا عند دراسة التاريخ، وأحد الاسماء التي تفخر الدول العربية بإنهم نشأوا على أراضيها، فقد ولد أبو بكر الرازي في العام 250 من الهجرة النبوية، وكان ذلك في مدينة الري الواقعة بالقرب من طهران، والتي عرفت الإسلام في زمن عمر بن الخطاب الذي فتحها، ثم انتقل بعد ذلك إلى أبو بكر الرازي إلى بغداد، وهناك اشتهر بكونه طبيباً بارعاً وكيميائياً عظيماً، وله العديد من المؤلفات التي تشمل مختلف فروع الطب على اختلافها، حتى إنه لُقب من قبل المؤرخون بلقب أبو الطب أبو بكر الرازي
أبو بكر الرازي .. أبو الطب :
إسهامات أبو بكر الرازي في مجال الطب، كانت كفيلة بحق لمنحه لقبه المميز “أبو الطب”، ومن أهم إسهاماته الطبيبة والأمور التي لم يسبقه أحد بالعلم بها، التالي:
تشخيص الجدري والحصبة :
أحد أهم إسهامات العالم الجليل أبو بكر الرازي في علم الطب، هو إنه أول من وضع فروقاً واضحة بين مرضي الحصبة والجدري، وقد كان هناك خلط شديد قبله بينهما، خاصة مع ضعف إمكانيات التشخيص آنذاك، وتقارب الأعراض المصاحبة لكلا المرضين، ولكن أبحاث أبو بكر الرازي المتناول لخصائص كلاهما وأعراضهما، مكنته من التوصل إلى العديد من الفروق الظاهرية بينهما، وصارت هذه الفروق التي بينها الرازي في كتبه، واحدة من أهم أسس التشخيص التي اعتمد عليها أطباء عصره والعصور التالية له، خاصة وإن المرضين -الحصبة والجدري- كانا شائعان في هذه الحقبة، وكانت خطورتهما تقارب خطورة مرض السرطان في زمننا الحالي، فقد كانا يصنفان كأمراض مهددة لحياة البشر.. وجدير بالذكر إن في عام 1911م، أي بعد وفاة أبو الطب أبو بكر الرازي بقرابة قرن من الزمان، قامت الموسوعة البريطانية الطبية بالإشادة بمجهودات أبو بكر الرازي في هذا الصدد، كون كتابه الحامل لعنوان الحصبة والجدري، هو أول كتاب يرد به وصف دقيق لكل من المرضين، وتمت ترجمة هذا الكتاب إلى اللغة اللاتينية، ومنها إلى اللغة الإنجليزية وعدة لغات أوروبية أخرى.
استخلاص الدواء من الطبيعة :
دور أبو بكر الرازي كواحد من أوائل رواد المجال الطبي، لم يقتصر فقط على شروحاته للأمراض، وتصنيفه للأعراض الفاصلة بين أنواعها وأنماطها، بل إن أبو بكر الرازي كان له دور كبير في ابتكار الأدوية ووسائل العلاج، ويعتبره الكثير من العلماء والأطباء في زمننا المعاصر، أباً روحياً للطرق العلاجية التي تصنف تحت مسمى الطب البديل أو طب الطبيعة، وذلك لإن أبو بكر الرازي دأب على استخلاص العقاقير العلاجية من النبات، وتمكن بمهارة فائقة من التعرف على خصائص أنواع النبات، والمواد المتوفرة في تركيب أوراقها، وكيفية تسخيرها للحد من آلام المرضى وعلاج العضال من الأمراض.
الدواء الكيميائي والوقاية من الأمراض :
كذلك كان أبو بكر الرازي من أوائل من اشتغلوا بالأدوية الكيميائية، وكذلك كان من أوائل من أقروا مبدأ الوقاية خير من العلاج، فكان من بين إسهاماته ابتكاره لمرهم الزئبق، والذي استخدمه من أجل تقوية جهاز المناعة البشري، ورفع مستويات كفائته وقدرته على مجابهة الفيروسات والمُمرضات، وجدير بالذكر هنا إن مرهم الزئبق الذي كان أبو بكر الرازي أول من عمل به، وعلاج به من يعانوا من ضعف المناعة الطبيعية، لا زال يباع في الصيدليات حتى يومنا هذا، وإن كان تركيبه اختلف كثيراً عن ذلك الذي استخدمه الرازي، إلا إنه في النهاية الفضل في وجوده يعود لعالمنا الجليل، بجانب إن المادة الفعالة التي تمنح هذا المرهم تأثيره الإيجابي، هي ذات المادة التي استخدمها أبو بكر الرزاي فيما ابتكره من دهان شافي.
الدواء الطبيعي هو الأفضل :
تتعالى بعض الأصوات حالياً منادية بالاتجاه إلى الطب البديل، الذي يعتمد على استخدام مجموعة من المواد الطبيعية، المستخلصة غالباً من بعض أنواع النباتات وأزهارها، وفي ذات الوقت تحذر هذه الأصوات من اللجوء للأدوية التقليدية الكيميائية، وذلك لإنها بالضرورة سيكون لها العديد من الآثار الجانبية السلبية، والتي تشكل إزعاجاً شديداً لمستخدمها، بجانب إن بعضها يؤدي إلى الإدمان إذا تم استخدامها لفترات زمنية طويلة، ولكن هذه النصائح التي تتردد بكثرة في زمننا الحالي ليست بجديدة، فقط توصل أبو بكر الرازي لهذه الحقيقة قبل قرون، وإذا طالعنا الكتب الذي نظمها أبو بكر الرازي في مجال الطب والمداواة، سنجد أنه نصح في أكثر من موضع باللجوء إلى العلاج الطبيعي كلما أمكن ذلك، وقصر استخدام العلاج الكيميائي على الحالات المستعصية، نظراً لما لها من تأثيرات قوية ومفعول سريع، يحد من الألم المبرح الذي يكون المريض مُعرضاً له، أو في حالة عدم التوصل إلى مادة طبيعية تعالج ذلك النمط المرضي، وكان العلاج الكيميائي في كتب أبو بكر الرازي يشار إليه بمصطلح “الدواء المركب”.
أخلاقيات الطبيب :
رغم إن تصنيف أبو بكر الرازي كطبيب هو تصنيف فيه كثير من الجور والظلم، فصحيح إنه قد برع في الطب بشكل كبير، وجاء فيه بما لم يسبقه أحد من العلماء إليه، إلا أنه كان كذلك عالم كيميائي وفقيهاً دينياً، وكانت هذه سمة من سمات علماء ذلك العصر، مثل ابن سينا والحسن بن الهيثم وغيرهما، فلم يكن بينهم عالم متخصص في فرع واحد من فروع العلم، لكن رغم مهارات أبو بكر الرازي المتعددة واشتغاله بكثير من العلوم، إلا إنه أدرك إن مهنة الطب بالذات لها طابعها الخاص، ولهذا وضع ما يشبه الدستور أو القانون المنظم لممارسة مهنة الطب، فليس كل من حظي بقدر من المعرفة أو التعليم الطبي يصلح لممارسته كمهنة، وشن ثورة عارمة على من دعاهم بـ”الكاذبين”، الذين ينتحلون صفة الأطباء ويبيعون الوهم للناس ويتجارون بآلامهم، وقال بإن الطبيب ليكون طبيباً يجب أن يكون ملماً بكافة المعلومات الخاصة بالأمراض وأعراضها وعلاجها، وألا يكون من المحتمل أن يطرح عليه سؤالاً طبياً ولا يستطع إجابته.. كذلك قسم أبو بكر الرازي الأمراض في مجملها إلى قسمين رئيسيين، أولهما هي الأمراض القابلة للعلاج، وثانيهما هو الأمراض المستعصية التي لم يتم التوصل إلى طرق علاجها، وأكد إن لا لوم على الطبيب إن لم يتمكن من وصف علاج فعال للأمراض من النوع الثاني.
في ذات السياق وضع أبو بكر الرازي قائمة بالمواصفات والخصال، التي يجب أن يتمتع بها كل مشتغل بمجال الطب، وأكد على إن المهارة وحدها في هذه المهنة المقدسة لا تكفي، وقال بإن الطبيب يجب أن يكون مخلصاً لعمله خالص النية لوجه الله تعالى، فهو يتعامل مع البشر كافة باعتبارهم أنفس، يساعدها على النجاة من الهلاك ويخفف من آلامها وأوجاعها، حتى ولو كان المريض المثال بين يديه ألد أعدائه، فعليه ألا يقصر وأن يبذل أقصى جهده لعلاجه وشفائه من سقمه.
تحديده أفضل مواقع المستشفيات :
أن تقيم بناء ضخم يحتوي أسرة مجهزة لاستقبال المرضى، وتعيين فريق من الأطباء والممرضين لتقديم الخدمة الصحية ضمن أروقته، هذا لا يعني إنك قد أقمت مستشفى معدة لمعالجة المرضى، أو هكذا لم يكن الأمر بالنسبة لعالمنا أبو بكر الرازي ،فقد أدرك إن البيئة المحيطة هي عامل مؤثر في عملية الاستشفاء، ولهذا حين طلب منه خليفة الدولة العباسية المقتدر بالله بن جعفر الإشراف على إقامة مستشفى، قام بتقطيع اللحم إلى مضغات صغيرة الحجم، قام بتوزيعها بأكثر من موقع بالمدينة، ثم لاحظ معدل إصابة تلك المضغ بالعفن والتلف، واختار موقع اللقطعة التي تأخر تعفنها لبناء المستشفى، إذ رأى أبو بكر الرازي إن ذلك دليل على طيب الهواء بذلك الموقع، وحين نصح الخليفة بتخصيص ذلك الموقع لإقامة المستشفى، أعجب بعبقرية أبو بكر الرازي وأمر بإقامة المستشفى بالمكان الذي حدده، ثم كلفه بإن يكون رئيسياً لهذه المستشفى وكبيراً للأطباء العاملون بها.