الذكاء الصناعي أحد أهم اختراعات العصر الحديث في التكنولوجيا. وعلى الرغم من عدم تطوره الكامل إلى الآن، لكنه تمكن من الدخول إلى جميع مجالات الحياة اليومية. بداية مع البرامج الإلكترونية التي تنفذ المهام بشكل تلقائي وسريعة الاستجابة، إلى الروبوتات أو الآلات التي تعمل بالذكاء الصناعي وقادرة على تنفيذ مهام صعبة ومعقدة. وفي هذه الأيام، يتزايد الخوف حول إمكانية استبدال البشر بالآلات، أي تقليل العمالة البشرية، وبالتالي تقليل الوظائف البشرية. مما سيتسبب في رفع معدلات البطالة العالمية، وتسبب تلك الفكرة الذعر الشديد في نفوس المؤسسات المعنية بالأمر. فلماذا إذًا كل هذا الذعر؟ وهل حقًا سيشكل الذكاء الصناعي خطرًا على الوظائف التي طالما عرفها وعمل فيها البشر؟
العمالة البشرية هي الأغلى سعرًا
عندما تقارن شركة صناعية في أي مكان بالعالم، بين أسعار مرتبات العمالة البشرية وأسعار تكلفة شراء معدات وآلات تعمل بالذكاء الصناعي، ستجد أن أسعار المرتبات هي الأعلى دائمًا. وبالطبع ستتجه الشركات إلى الاستعانة بالآلات والتخلي عن الموظفين لتقليل سعر المنتج وزيادة معدلات الربح. هذه أول وأهم نقطة في تفضيل الذكاء الصناعي، لأنه لا يطالب أبدًا في رفع الأجور. بعكس البشر الذين يطالبون على الدوام برفع الأجور بسبب غلاء المعيشة.
الذكاء الصناعي لا يتطلب أموال طائلة للعمل، بل فقط يحتاج إلى طاقة حتى يعمل وينتج باستمرار دون كلل أو تذمر أو فترات راحة طويلة. بعكس البشر الذين يطالبون بفترات للراحة تقلل من ساعات الإنتاج، وفترات للغذاء، وإجازات صيفية وما إلى ذلك. كل ذلك يزيد من سعر المنتج ويقلل من الربح. الأموال التي ستدفعها الشركة، ستذهب إلى سعر الآلات أو الروبوتات، ومن ثم سعر صيانتها كل فترات متباعدة. وهذه الأموال لا تقارن بأموال الرواتب الشهرية للموظفين.
الذكاء الصناعي هو الأعلى كفاءة
عندما يتعلق الأمر برفع المعدات الثقيلة أو نقلها، أو التعامل مع الحرارة العالية في الأفران الكبيرة، بالطبع ستكون الآلات والروبوتات هي الأعلى كفاءة. لأنها الأكثر قدرة على تحمل ظروف العمل الصعبة. بعكس العامل البشري الذي تتعرض حياته إلى الخطر مرارًا وتكرارًا في ظروف العمل الصعبة والخطيرة. كما إن الآلات تمتلك قدرة تنظيمية أعلى، مما يسمح لهم بالتعاون سويًا بشكل ديناميكي بدون أخطاء. ولذلك عندما ترغب شركة في توفير عمالة للمهام الروتينية الصعبة، ستفكر في الآلات قبل البشر. وستحاول تقليل أعداد الوظائف البشرية كلما أمكن لها ذلك.
التخلص السريع من الروبوتات أمر سهل وبسيط
مع ارتفاع الوعي العالمي تجاه الصحة وتوفير الحياة الكريمة لجميع العمال، وكثرة النقابات المتخصصة في الدفاع عن حقوق العمال. تضطر الشركات لإنفاق مبالغ طائلة على الرعاية الصحية للموظفين، ومن ثم صرف المعاشات لكبار السن. هذه الأمور يمكن الاستغناء عنها تمامًا عند استخدام الروبوتات المعتمدة على الذكاء الصناعي. بالطبع تمتلك كل آلة فترة صلاحية معينة، ومن ثم تصبح غير قادرة على إتمام عملها بكفاءة. ولكنها لن تطلب معاشات من الشركة، بل ببساطة سيتم التخلص منها. هذه الأموال التي يوفرها الذكاء الصناعي، هي الخطر الأساسي على الوظائف البشرية. لأنه يقدم فرصة للشركات للتخلص من العمالة البشرية، ويوفر منتج أفضل بسعر أقل ومدة أقصر، ولن يطالب بأي حقوق.
الكفتان غير متساويتان
يوضح “كلاوس شواب”، المؤسس والرئيس التنفيذي لمنتدى الاقتصاد العالمي، أن الذكاء الصناعي يخلق فرص عمل جديدة كما أنه يقضي على فرص العمل القديمة. ولكن هاتين الكفتين في خلق الجديد والقضاء على القديم غير متساويتين. فالوظائف التي سيقضي عليها الذكاء الصناعي في البداية، أكثر بكثير من الوظائف التي سيوفرها. ونحن هنا نتحدث عن ملايين الوظائف البشرية حول العالم كله، في مجال الصناعة والزراعة. وجميع المجالات الأخرى التي ما زالت تعتمد في كل صغيرة وكبيرة على العمالة البشرية، وستتحول فجأة إلى الاعتماد على الآلات.
إعادة تدريب الموظفين
ويكمل كلاوس توضيحه، بأن حجم المشكلة سيزيد بسبب عدم القدرة على إعادة تدريب الموظفين على الوظائف الجديدة. فمن الصعب للغاية، إعادة تدريب موظف في الأربعين من العمر على استخدام الآلات الحديثة والإشراف عليها. مما سيخلق فجوة بين أعداد الموظفين المطرودين من عملهم، وأعداد العمال المطلوبين للعمل ولكن بمهارات عالية. ومع الأسف، تجهل الكثير من البلدان أهمية التدريب المهني للأفراد. وستكون النتيجة احتاج كبير لعمال يمتلكون مهارات عالية، وأعداد ضخمة من الموظفين الغير مؤهلين للعمل.
الذكاء الصناعي بديل عن المهام التكرارية
الدراسات الجديدة توضح نقطة مهمة عن تأثير الذكاء الصناعي في سوق العمل. وهي دراسات من شركة ماكينزي وأخري من منظمة التعاون والتنمية في الميدان الاقتصادي. بحيث توضح أن الذكاء الصناعي والروبوتات ستكون بديلة عن الأعمال الروتينية الصعبة والمملة، ولكنها لن تؤثر على الوظائف البشرية الأكثر تعقيدًا. فلن تستطيع الآلات القيام بجميع العمليات المعقدة التي تحتاج إلى دماغ بشري وتفاعل بشري.
وهذه النقطة تتفق مع النقطة السابقة. إذ توفر الآلات المناخ المناسب للعقل البشري لزيادة كفاءة عمله والتركيز على العمليات المعقدة الابداعية فقط. وتقوم هي بالأعمال الروتينية وتنظيم جداول العمل بدلًا عنه. إذًا الوظائف البشرية التي تحتاج تدريب ومهارة عالية لن تتأثر مثل الوظائف البشرية الروتينية. وعندما يصبح الفرد قادر على الإبداع باستخدام الآلات، والتفوق عليها بعقله وتحكمه فيها، لن يتعرض إلى الطرد من وظيفته. بل ستزيد أهميته. وهنا سيظهر الفرق بين الشخص الذي يعمل على ذاته ومواكب للتكنولوجيا العصر ويتحضر للمستقبل، وبين الشخص الذي يعتمد على وظيفته الحالية دون الاجتهاد لتعلم مهارات جديدة وأدوات جديدة.
الفجوة الكبيرة بين الأجور
عندما تحل الروبوتات العالمة بالذكاء الصناعي محل البشر، ستحدث فجوة كبيرة في الأجور بين عمال المهارات العليا والمهارات الضعيفة. الطبقة ذو المهارات المتوسطة ستختفي تقريبًا، وهي الأكثر تأثيرًا بدخول الذكاء الصناعي إلى المجال الصناعي. سنعطي مثال لنكون أكثر قربًا للفهم. تعتمد أي شركة في المجمل على ثلاثة فئات من الموظفين بشكل أساسي. موظفين الإدارة، أي المهارات العليا التي تحتاج عمليات تفكير بشرية عالية. وموظفين المكاتب والعمالية البشرية اليدوية على الآلات، أي المهارات المتوسطة. ويتم تسميتها في المجتمع الاقتصادي باسم “العمالة الأوتوماتيكية”. ثم عمال النظافة وما إلى ذلك، أي عمال المهارات القليلة.
الفئة الأكثر تأثرًا هي الفئة المتوسطة. وهذه الفئة يصعب تدريبها على المهارات العليا كما شرحنا من قبل. ستضطر هذه الفئة إلى العمل في سوق عمل المهارات القليلة، مما سيزيد من هذه الفئة ويقلل من الأجور المعروضة عليهم. على النقيض، سيزيد الاحتياج لفئة المهارات العليا، مما سيزيد من الأجور المعروضة، لأنهم الأقل في المجتمع. هذه الفجوة بسبب الذكاء الصناعي، واستبدال الفئة المتوسطة به.
تأثير الذكاء الصناعي تأثير إقليمي
الدراسات الأخيرة في هذا المجال، قدمت بعض الراحة والعزاء لقلوب المتخوفين من تأثير الذكاء الصناعي على الوظائف البشرية. إذ أثبتت أن تأثير الذكاء الصناعي إقليمي فقط. أجرى الباحثان “دارون أسيموجلو” و”باسكوال ريستريبو”، بحث عن تأثير الروبوتات على الوظائف البشرية في الولايات المتحدة. ما وجدوه أن الولايات التي تعتمد على الصناعة هي الأكثر تأثرًا. بمعدل ضياع 6.2 فرصة عمل مقابل كل 1 روبوت جديد. أما في الولايات التي تعتمد على الزراعة أو الولايات الساحلية، سيكون المعدل أقل. وستضيع 3 فرص عمل فقط أمام كل روبوت جديد.
وذلك لأن المناطق الساحلية على سبيل المثال، تطلب عمالة بشرية أكبر، كما يقل فيها أعداد السكان في أغلب المناطق لأنها تعتبر نائية. مما قد يخلق فرص عمل جديدة لمن فقدوا عملهم. أما المناطق الصناعية فدائمة الازدحام والتعداد السكاني المرتفع، مما سيزيد من حجم المشكلة وفقدان فرص العمل. هذا التأثير الإقليمي يمكن التغلب عليه، بتوزيع خريطة السكان وتقليل الازدحام بالمدن الصناعية والتجارية. وذلك يعتمد على مدى فهم الدول وإدراكها لحجم المشكلة، والعمل على التصدي لها. وهذه إحدى المشكلات لأن الدول غير مدركة لهذا الخطر.
النساء هن الأعلى تأثرًا بخطر الذكاء الصناعي
أوضحت الدراسات الجديدة لعام 2017 في معهد للتحليل الاقتصادي، أن النساء هن من سيتأثرن بخطر الذكاء الصناعي واحتلاله للوظائف. وستتأثر النساء ضعف تأثر الرجال. وذلك لأن أغلب النساء تعمل بمجالات المهارات المتوسطة. على سبيل المثال، 97% من العاملين كموظف استقبال أو كاشير بالمحال التجارية، من المتوقع أن يفقدوا عملهم في السنوات القادمة. 73% من هؤلاء العمال من النساء بحسب إحصاءات عام 2016.
الرجال ذو البشرة السمراء سيفقدون عملهم أولًا
توضح نفس الدراسة الماضية، أن الرجال ذو البشرة السوداء سيفقدون عملهم أولًا قبل الرجال ذو البشرة البيضاء. وذلك لطبيعة عمل أغلب الرجال الأفريقيين حول العالم. واحتكار سوق العمل لذوي البشرة البيضاء. ويأتي الرجال الأسيويون في المرتبة الثانية بعد الرجال الأفريقيين.
الدرجة العلمية تحدد حجم التأثير
في عدة دراسات لجماعات مختلفة حول العالم، أثبتت أن حجم التأثير مرتبط بالدرجة العلمية للفرد بشكل مباشر. فمن لا يمتلك درجة علمية جامعية سيتأثر ستة أضعاف عمن يمتلك درجة عملية أعلى. أي كل فرد لم يكمل تعلميه الثانوي أو الجامعي، سيفقد عمله أسرع بستة مرات. تدهور التعليم في البلاد، يزيد من خطر فقدان الوظائف بسبب الذكاء الصناعي.
انعدام الأخلاقيات وتجاهل المنظمات العالمية
سببًا أخر يزيد من حجم الخطر الذي يشكله الذكاء الصناعي على الوظائف، ألا وهو انعدام الأخلاقيات عند صناع هذه الآلات. يقول الأستاذ “كارنيجي ميلون” أن على العاملين بمجال تطوير الذكاء الصناعي التفكير بشكل أخلاقي. فهم يصنعون تلك الآلات لراحة البشر وسعادتهم، وليس لتخريب الحياة والقضاء على الوظائف التي توفر المعيشة. ولكن الواقع يقول عكس ذلك، لأن صناع التكنولوجيا يهتمون بالربح المادي فقط. ويعملون على تطوير كفاءة الآلات في جميع المجالات حتى تستبدل البشر.
ويكمل ميلون حديثه، بأن المنظمات الدولية هي التي يجب أن ترعى وتنظم كيفية دخول الروبوتات إلى المجالات الحياتية بشكل تدريجي. حتى لا يفقد البشر كرامتهم أمام الآلة. هذا التجاهل التام للمشكلة وتأثيرها على الحياة البشرية، وعدم وجود نقاش فعال على المستوى الصعيد الوطني والدولي، وفقدان الأخلاقيات في مجال التكنولوجيا الحديثة، يزيد من الخطر.
نحن بصدد ثورة صناعية رابعة مع الذكاء الصناعي، بعد ثورة البخار والكهرباء والثورة الرقمية. وقد عانى أجدادنا من الثورات الصناعية التي سبقتنا. ولكن المحصلة دائمًا تكون إيجابية وفي صالح البشر. وسيوفر الذكاء الصناعي حياة كريمة وفرص عمل جديدة للبشر على المدى البعيد. ولكن علينا اليوم أن نكون مسؤولين وحذرين عند القيام بهذه الخطوات الجديدة. ونعمل على التصدي لحجم الخطر المتوقع، لنوفر وظائف للجميع، وليس للقلة المحظوظين فقط.